الثّقافة هي زهرة الإنسان.. هكذا تحدث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، بمناسبة اليوم العالمي للتّنوع الثّقافي من أجل الحوار والتّنمية الذي يصادف الواحد والعشرين من شهر ماي كلّ سنة، فـ»الثقافة» - قال غوتيريش في رسالة مصوّرة ـ هي «ثمرة العقول ونتاج التّقاليد» وهي «التّعبير عن التّطلعات»، أمّا تنوّعها المدهش، فهو جزء من نسيج الحضارة الغنيّ» إضافة إلى كونها «مركز قوّة عظيم التأثير»، وهي «محرّك يدفع عجلة التّقدم الاقتصادي» و»قوة لتحقيق التّماسك الاجتماعي».
إذا كان اليوم العالمي للتّنوّع الثّقافي الذي أقرّته الأمم المتّحدة في نوفمبر 2001، ليكون خلاصة للحراك الفكريّ الذي اصطنعه فرانسيس فوكوياما بـ»نهاية التّاريخ والانسان الأخير»، وصامويل هنتنغتون بـ»صراع الحضارات»، فإنه مرتبط، رمزيا، بذلك اليوم المشؤوم الذي أقبلت فيه جماعات إرهابية بأفغانستان، على تدمير تمثالين لـ»بوذا» نحتا بوادي باميان في القرن السّادس الميلادي، ولعلّ يكون واضحا، أنّ الاعتراف بـ»التّنوّع الثّقافي» هو تواصل منهجيّ لفكرة «حوار الحضارات» التي اعتبرها الأمين العام السابق، كوفي عنان، «جزءًا من الهيكلة الأساسيّة للأمم المتّحدة» يقصد إلى «مساعدة المجتمعات على فهم قيمة التّنوّع الثّقافي وكيفية التّعايش السّلمي»، وهذا يستدعي ـ بالضّرورة ـ التّمكين لاستقرار فكرة «التّسامح» من خلال «الحوار الثّقافي» الّذي يهدف إلى تقريب الثّقافات على اختلافها، ومواجهة خطاب الكراهيّة والتّعصّب الفكريّ والدّينيّ، وحماية التّراث الثّقافي والحضاري لجميع الشّعوب.
ولا شكّ أن خطاب الأمم المتّحدة منسجم منهجيّا، ويتلبّس بأسلوب يبدو ممعنا في الواقعيّة، فالعالم يعيش صراعات هويّاتية، وكثيرا ما تصطنع له اختلافاته الثّقافيّة والدّينيّة حروبا ومواجهات دامية، ما يعني أن تأصيل التّنوّع الثّقافي، على مستوى النّسق الاجتماعي الواحد، وعلى مستوى الأنساق الاجتماعيّة المختلفة، يفتح الأبواب مشرعة أمام «السّلام» ويكون ـ بتحصيل حاصل ـ مؤسّس للتّنمية المستدامة، والتّقدم الاقتصادي الّذي ينال نفعه الجميع، وعلى هذا، يقدّم «الاعتراف بالتّنوّع الثّقافي»نفسه في صورة الضّرورة الحيويّة التي ينبغي أن تتظافر جهود الفاعلين في كل أقطار العالم على تجسيده، لكن ما يوحي به الإجراء الأممي المتعلّق بـ»مساعدة المجتمعات على فهم قيمة التّنوّع الثّقافي»، لا يقصد - بطبيعة الحال ـ المجتمعات التي تمثّل الحضارة المهيمنة، وإنّما يقصد إلى مجتمعات بقيّة العالم التي صنّفها هنتنغتون في الحضارات التي يحتمل أن تنازع الحضارة المهيمنة مكانتها، وهنا بالضبط، تتجلّى «المثاليّة» التي يتميّز بها طرح الهيئة الأمميّة، كمثل ما يتجلّى الخلل في العمل المنهجي الذي تسيّره، ولنا أن نتساءل: هل يكفل التّأسيس لقيمة التّسامح في المجتمعات التي يعتبرها الغرب (مارقة)!!، تحوّل هذه القيمة إلى حقيقة عالمية معيشة؟ نعتقد أن الأمر ينبغي أن يأخذ بعض الرّوية في التّفكير.
قيمة التّسامح..
تمثّل قيمة «التّسامح» موضوع نقاش فكري في العالم العربي منذ أكثر من ستين عاما، ولقد كانت محور أطروحة الدكتوراه التي ناقشها محمد أركون، وحدّد لها تفاصيلها في أعمال ابن مسكويه وأبي حيّان التوحيدي، وكانت في منظور محمد عابد الجابري وهو يستعيد صورة فيلسوف الأندلس، ابن رشد، وخاض فيها كثيرون، في زمن لم يكن قد استقرّ للحضارة المهيمنة، لهذا، اتّسم خطابهم بالموضوعية والانفتاح، في مقابل خطاب اليوم الذي يقدّم نفسه في لبوس الفكر، مع أنّ الفكرويّة التي يتأسّس عليها، تكاد تقفز من بين سطوره، فهذا خطاب بلاغيّ البنية، يفتقد إلى العلميّة، ويركّز على «العواطف»، فيتشكّل بعبارات من قبيل «ديننا الحنيف يتقبل التنوّع الثّقافي»، و»الثّقافة تحرّك الوضع الاقتصادي» دون أن يعود إلى أصول المصطلحات التي يعتمدها، ولا إلى المفاهيم التي يتأسّس عليها، ولا حتى إلى الإجراءات التي ينبغي اتخاذها من أجل الانتقال بـ»العبارات» من حاضنتها البلاغية إلى ميادين التّطبيق العمليّ، إذ لا يكفي أن نعترف وحدنا بأن ديننا الحنيف يتقبّل التّنوّع، فهذا معروف، وله تاريخ مشهود، بوقائع تاريخية مثبتة، إضافة إلى انعكاس هذه القيمة في الأعمال الملحمية التّاريخية، وهو ما يتجلّى ـ على سبيل المثال ـ حين نقارن ملحمة «الملك سيف التيجان» الجزائرية، بملحمة «أنشودة رولاند» الفرنسيّة، فنجد أن المخيال الشّعبي الذي اصطنع نموذج «سيف التيجان» محاربا سمحا يتقبل أعداءه ويبوئهم الصدارة في جيشه، مختلفا تماما عن المخيال الشعبي الذي اصطنع الملك شارلمان منتقما لـ»رولاند» فلا يُبقي من أعدائه أحدا على قيد الحياة. وعلى هذا، يبدو الطرح البلاغي الذي يروّج لـ»التّسامح» في حاضنتنا العربية مثاليا للغاية، ولا يؤتي ثمراته إلا على مستويات بعينها، لا تستفز لحظة الانتقال الاجتماعي بالضرورة.
مسألة التّثاقف
وما دام «التّسامح» يتأسّس على «التّنوّع الثقافي»، فإنّ الخطاب العربي الراهن يركّز على أنّ قبول هذا التّنوّع والرضا به، شرط ضروريّ لـ»تحقيق التّماسك الاجتماعي» و»التّقارب والتّلاقح بين الثّقافات»، وهذا يبدو حصيفا للغاية، ولكنّه ينبني على نوع من التّسليم بأنّ المقصود الفعلي هو المجتمعات التي لا تمثل الحضارة المهيمنة، فالحديث عن «التّثاقف» أو «التلاقح بين الثّقافات» يتعالى على جهد الفكرويّة العربيّة؛ ذلك أنّ مقاليد الواقع الرقمي ـ مثلا - إنّما تحكمها، وتتحكّم بها، وتضبطها، الحضارة المهيمنة، ولا دور للحاضنة العربية يتجاوز جهد التلّقي والقبول واتباع آخر صيحات الموضة.. لهذا، كان ينبغي للخطاب العربي أن يحرص على عدم إغفال التّفكير في السّبل التي تكفل التّلاقح الثّقافي، وقبول التّنوّع والاختلاف، مع صون مقوماتنا الحضارية، وعدم الذّوبان في الآخر، على رأي الجابري.
مراجعات
تشكّلت فكرة «التّسامح» في سياق الصّراع السّياسي والخلافات المذهبيّة بأوروبا، في أوج عصر النهضة. أي القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وذلك من أجل التّوصل إلى حلول موضوعيّة للخلافات العميقة، وكانت الفكرة الرئيسيّة الّتي ركّز عليها محمد أركون في أطروحة الدكتوراه كما قلنا آنفا،ولقد ذهب صاحب»فيصل التّفرقة» إلى أن خطابنا العام «يعبّر عن تحقيق قيم العدالة والإخاء والتّسامح، وكلّها أشياء مرجوة وملحّة، ولكن تحقيقها مستحيل بسبب البنى الاجتماعية السّائدة، وأطر الفكر المهيمنة».. وظاهر أن «مستحيل التّحقيق» الذي تحدّث عنه أركون، لا يعود إلى البنى الاجتماعيّة ولا إلى السّياج الدّوغمائي المغلق وحدهما، فهذان عاملان كان للكولونيالية الغربية دور ريادي في اصطناعهما، والوضع اليوم، مع استقرار الهيمنة، أكثر تعقيدا مما كان عليه من قبل، فقد اشتغل أركون على الموضوع وفق محور تاريخي حاول أن ينسخ في أثنائه التّجربة الأوروبية نسخا حرفيّا، بالنّظر إلى ما تحقّق لها من انتقالات مبهرة، ولكن، في المقابل، هذا يعني أنّ المشروع يقتضي مسارا تاريخيا بأثر رجعي، وليس وفق سيرورة انتقال طبيعية، وهذا ما يجسّد القول بـ»المستحيل التّحقق» وليس ما تنطوي عليه البنى الاجتماعية فقط، ولهذا، ينبغي التّركيز على طبيعة السيرورة التّاريخية الضامنة لاستعادة نموذجنا الحضاري الذي تمأسس أول مرّة على «التّسامح» و»الإيثار» وقيم إنسانية عليا وقرت في القلوب وتحوّلت إلى عقائد راسخة.
حتى لا يصادر المستقبل..
لنقل، إنّنا إذا كنا نحترم جهود بعض الدول العربية في التأسيس لفكرة «التّسامح» وفكرة «حوار الحضارات أو الثّقافات»، فإننا لا ينبغي أن ننكر بأن هذه الأفكار قد تصطنع مغالطات فادحة يكون ضحيتها الطرف الضّعيف بالتأكيد، ذلك أن الصّراع الذي روّج له هنتنغتون، مقتضاه «النّدية»، أمّا مقتضى «الحوار» فهو الكفاءة، وواقع الحال يقول إن الحضارة المهيمنة تضع بقية العالم على الهامش، وليس من سبيل للتّعامل معها (في حال الصّراع أو في حال الحوار) سوى التّفكير بعيدا عن الطروحات المعتادة، وخارج البراديغمات الجاهزة..
ينبغي البحث عن طريق ثالث، يوازي الجهود التي تقصد إلى تحقيق الممكن وفق منهجيات مختلفة ليست موضوع حديثنا، وإذا كانت الحضارة الغربية قد انتقلت من «براديغم التسامح» إلى «براديغم التواصل» وانتهت إلى «براديغم الاعتراف»، فإن الحاجة ملحّة إلى تجاوز النسخ الحرفي للتاريخ، أو القبول بكلّ ما يستهوي الحضارة المهيمنة، ونعتقد أن مقترح عبد الرزاق بلعقروز المتعلّق بما يسميه «أنموذج التّعارف» (براديغم التعارف) يمثّل فرصة ذهبية للتخلص من أطر التفكير المتجاوزة، فـ»التعارف» كما يعرّفه صاحب فلسفة القيم، يتأسّس على مرتكزات ثلاث: الانتساب الإيماني لأجل موضوعية القيم، تقوية حركة العمران، ونقل التّفاضل من المحدّدات الثّقافيّة إلى الكرامة والتّنمية الرّوحيّة..
ولعلّ براديغم التّعارف يتحمّل هو الآخر، بشيء من المثالية، بالنّظر إلى واقعنا المعيش في معترك الحضارة المهيمنة، ولكنه في كل حال، خطوة جريئة، بل خطوة جبّارة، للتّفكير خارج البراديغمات الجاهزة، والأطر المحدّدة، ومحاولة جادّة للتخلص من فكرة الإسهام في الجهد الحضاري العالمي، بأثر رجعيّ في التّاريخ، وأفضل من ذلك، أنه يمثّل طريقا ثالثا قد يحفظ لأجيال المستقبل فرصهم كاملة في العودة إلى محفل الأمم.