استشراف

مراجعـة كتــاب

وليد عبد الحي

في الفصل الثاني يتتبع الاتجاهات النظرية في نشأة وتفسير الظاهرة الديمقراطية، ويحدد الاتجاهات في ثلاثة هي: اتجاه التنمية والتحديث (نظرية Lipset) والتي تربط الديمقراطية بتطورات ثلاثة هي التنمية والتعليم والتحضر(Urbanization) وعرض بعض الانتقادات الموجهة لها من (هنتينغتون). أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه «احتياجات النخب وتفضيلاتها «(نظرية Rustow) الذي ربط الديمقراطية ببلورة هوية سياسية مشتركة وتنافس النخب بل وتصارعها أحيانا وصولا لنقطة التفاوض ثم اكتشاف المتنافسين لجدوى القواعد التي يعمل على أساسها النظام. ويرى روستو أن المرحلة الثانية هي الأهم. وكان الاتجاه البنائي هو الاتجاه الثالث، وهو الاتجاه الذي قادة (Moore) ويركز على بعدين هما التغير والتوازن بين مكونات البنية الاجتماعية والطبقية، معتبرا أن الخلل في بنية وتوجهات البرجوازية يقود الى الفاشية والشيوعية.
ينتقل الكاتب في الفصل الثالث، لعرض أشكال النظم السياسية وتحديد أسباب انهيار كل نمط منها، ويركز على نمطين هما النظم السلطوية النقية(pure)(وتقوم على فرد واحد أو حزب واحد أو سلطة دينية أو الحكم العسكري) وتتسم هذه النظم بـ: الهرمية والسلطة المطلقة والتحكمية والإقصائية واحتكار القرار، وهو ما يولد مخرجات تتمثل في القلق وضعف المشاركة السياسية وشخصنة السلطة وغياب التداول. أما النمط الثاني وهو النظم «الهجينة» وهي التي تتوفر على الجانب الشكلي من الديمقراطية دون توفر الجانب الموضوعي، فتجد فيها انتخابات، أحزاب وتداول، لكنها تخضع لجهة توجه مسار كل هذه المؤسسات، وكثيرا ما انتهت النظم الهجينة إلى المواجهات الداخلية، بخاصة اذا افتقدت النخبة المسيطرة تماسكها. أما دور البيئة الخارجية في وجود وبقاء هذه النظم فمرهون بثلاث آليات: الدومينو (انهيار نظام يقود لانهيار آخر، كما جرى في الكتلة الاشتراكية)، وأطلق الباحث على نقطة انطلاق الانتقال تعبير «الشرارة: ، أي المحرك لبدء الانتقال» (مثل وقوع هزيمة عسكرية، موت الزعيم، تدهور اقتصادي حاد، تنامي المعارضة بقوة، أو حدوث تطور دولي عميق)، ثم يحدد النتائج على أساس من هي القوة التي تحسن اقتناص الفرصة التي يلعب موقف المؤسسة العسكرية دورا في نجاحها أم فشلها.
ويحدد في الفصل الرابع أنماط الانتقال: من أعلى (إصلاح النظام نفسه) أو بالتفاوض بين السلطة والمعارضة أو الانتقال من أسفل عبر حركة احتجاج شعبي واسعة، أو تدخل قوى خارجية (مثل العراق)، ثم ينتقل لسبل تعزيز الديمقراطية في الفصل الخامس بتعليم وتعميم الممارسة الديمقراطية وتعزيز أليات التحديث، وإخضاع المؤسسة العسكرية للمدنية، ثم يتناول أنماط الديمقراطية خلال الانتقال في الفصل السادس مثل التوافقية والرقمية (تأثير الانترنت على عمليات التواصل والانتخاب والمشاركة... إلخ)، وينتهي في الخاتمة لطرح سؤال عن مستقبل الديمقراطية، لكنه لا يقدم إجابة بمقدار التأكيد ثانية على موضوع خصوصية كل تجربة ديمقراطية، مما يعني عدم وجود نموذج واحد للانتقال.
قامت هذه الدراسة من بدايتها على فرضية محددة وهي المقارنة بين عمليات الانتقال الديمقراطي من خلال عرض –ولو بإيجاز- لعدد كبير من حالات الانتقال. وخلصت الدراسة، بعد المقارنة، إلى (كما ورد في الخاتمة) عدم وجود نموذج واحد للانتقال. لكني أعتقد أن هذا الاستنتاج فيه خلل منهجي، فلو أن الكاتب وضع تصنيفا للدول على أساس معين وقام بالمقارنة لكان توصل الى نتائج أكثر أهمية ودلالة وفائدة، فمثلا لو قسم الدول التي جرت فيها عمليات الانتقال حسب مستوى التطور العام أو الإقليم الجغرافي أو السمة العسكرتارية للنظام أو الدين السائد في المجتمع أو درجة التجانس الإثني أو نمط الإنتاج(زراعي/ صناعي/ خدماتي/) أو عمر النظام السياسي أو...إلخ، فمثلا لماذا كان مستوى العنف في كل أوروبا الشرقية التي حدث فيها انتقال عميق (سياسيا من الحزب الواحد الى التعددية، اقتصاديا من القطاع العام للقطاع الخاص، العلاقات الخارجية من حلف وارسو الى حلف الأطلسي، التوجه التكاملي من الكوميكون الى الاتحاد الاوروبي...إلخ)، كان قليلا للغاية في كل هذه الدول، كما ان مسارها العام في التحول متشابه الى حد كبير.
كذلك لو بذل الكاتب جهدا في مقارنة تجارب الانتقال في الربيع العربي سيجد أن السمات العامة أكثر من سمات الخصوصية. وعليه، فإن الخلل المنهجي في هذه الدراسة تغليب الخصوصية على العمومية، ويكفي المقارنة بين نموذجين مثلا: الصين يجري فيها تحول عميق منذ 1978 وقبل الاتحاد السوفييتي، لكن الانتقال الصيني انتهى لنجاح كبير، بينما انهار الاتحاد السوفييتي (هل التنوع الإثني الواسع في الاتحاد السوفييتي له دور؟ ثم لماذا كان العنف الكبير للانتقال في يوغسلافيا (حرب طاحنة)، بينما تم الانفصال في تشيكسلوفاكية دون قطرة دم (التنوع الإثني في الأولى لا يقارن بالثانية)... وفي الدول العربية يمكن عقد مقارنات طبقا للعسكرة أو درجة التنوع الإثني أو مستوى انتشار الأنترنت...إلخ.
من جانب آخر، فالمقارنات الواردة في الدراسة هي مقارنات مأخوذة من دراسات أخرى، ولم أجد أي جهد من الباحث لعقد مقارنات يضيفها هو الى هذه المقارنات التي عَبَرَ على أغلبها عبورا، بل إنه تعامل مع موضوع الديمقراطية الرقمية ودورها في الانتقال بشكل لا يتفق مع الظاهرة في العالم العربي، فلو عدنا لعدد من الدراسات العربية حول علاقة الانتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي، بانتشار وسائل التواصل والانترنت، سنجد ان ثورات الربيع العربي حدثت في الدول الأقل انتشارا في الانترنت أو حتى الجهاز الخلوي، سواء بسبب الفقر أو بسبب القيود الأمنية (ليبيا، سوريا، اليمن، مصر، العراق)، وهو ما يخالف استنتاجاته.
لكن الباحث من زاوية أخرى، قدم مادة علمية أكاديمية منظمة ومتسقة، رغم الخلل الذي أشرت له أعلاه، فقد كان شرحه مترابطا وكان الترابط بين عناوين الفصول ومضمونها دقيقا، إلى جانب ترابط عنوان الكتاب بموضوعه دون خروج، إلا أن العنوان الفرعي: ماذا يستفيد العرب من تجارب الآخرين كان الأقل حضورا في الكتاب.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024