مشروع يولد من رحم الأكاذيب: لكي يفهم ما يحدث مع الجزائر اليوم من تغيير حتمي، وما الذي حدث لليبيا بالضبط، وما لتونس ومالي والنيجر ومصر، ولكي نفهم كيف نتحرك.. فلنعد إلى ثلاثين سنة مضت وقراءتها من زاوية (النظام العالمي الجديد) منطلقين في ذلك من الخطاب الشهير للرئيس الأمريكي الأسبق (جورج دبليو بوش) في يوم 11 سبتمبر 1990، والتركيز جيدا في جملته: (وإن هدفنا الخامس هو: إقامة نظام عالمي جديد).. ولنتوقف هنا بالذات ولا نلتفت لما سيليه من كلمات ذلك الخطاب حول العدالة والحقوق والإنسانية والحرية فهي كلها ليست سوى سلع للتجارة السياسية وذريعة إستراتيجية، وها نحن قد رأينا ذلك مؤخرا ولا زلنا نراه اليوم، فكما قال النائب البريطاني من حزب العمال (دینیسهیلي) قبل سنوات: «إنَّ النظام الجدیيد یولد من رحم الأكاذیيب».
القطع المفخخة مُتراصّة، والماهر من يستبق النوايا:
إن تغيير ليبيا يقود إلى تغيير الجزائر ومصر - أكبر كتلتين ديموغرافيتين وقوتين عسكريتين في شمال إفريقيا مجاورتين لليبيا -، ومثلما أن تغيير مصر -وقبلها العراق- يستهدف تغيير خارطة الشرق الأوسط باعتبار أن لمصر خصوصية جيوبوليتيكية في منطقتها مادامت هي الرابط بين قارتي آسيا وإفريقيا، فإن تغيير الجزائر يستهدف تغيير الإقليم المغاربي، وتغيير الإقليم المغاربي يؤدي لنتيجتين: الأولى لصالح الناتو في الشمال بحكم القرب الجغرافي، والثانية يغير الإقليم الجنوبي المتمثل في الساحل كله، وتغيير إقليم الساحل يغير غرب القارة الإفريقية. فلقد تولى الكيان الصهيوني تغيير شرق القارة من بوابة إثيوبيا والسودان، فدعم مشروع سد النهضة لخنق مصر في مجالها الحيوي المتمثل في النيل، ودعّم الانفصال في السودان لقطعها عن عمقها الإفريقي. وتولى الناتو مهمته من الشمال الغربي -أي ليبيا-، كما تولت قوات الأفريكوم تغيير وسط القارة وغربها.
كان الليبيون أضعف من أن يتعاملوا مع زخم (مشروع النظام العالمي) وللأسف أكثر جهلا لمركزية دولتهم، أما باقي العرب وبعض نخبهم السياسية المزيفة ومجتمعاتهم المدنية فأجهل من أن تدرك طريقة تسيير المرحلة بدقة وذكاء، أما الحكام فقد وقعوا في فخ الإستدراج بالإغواء ثم التحطيم الشامل.
ولكن الجزائر كانت لها طريقة فريدة من نوعها في التعامل، فاستبق الجيش الجزائري كل التوقعات وبدأ بالانخراط في العمل بعد قراءة دقيقة لمنطلقات النظام العالمي الجديد، فلا هو أراد الوقوع في فخ الإنقلابات من جديد والفوضى الشعبوية، ولا فخ التدخلات العسكرية الخارجية، بل جمع بين الهبّة الشعبية والإزالة السّلمية للنظام دون انقلاب، فحقق ديناميكية فريدة من نوعها في التعامل مع التغيرات الداخلية والمعطيات الخارجية واستطاعت نخبة ذات كفاءة من الشعب الجزائري ـ رغم كل الاختلافات الفكرية والسياسية فيما بينها ـ أن تتعلم من دروس الدول الأخرى لتنشر التوعية وتضع الحدود الكبرى للعمل السياسي السليم مهما كانت الخلافات في بعض الجزئيات، ومع ذلك فلم تقم النخب الأخرى الموازية إلا بالحركة المضادة سواء بخبث شديد من أجل تحقيق نفس السيناريو الذي كان موضوعا للدول الأخرى وفق مفهوم (الفوضى الخلاقة) لكوندوليزا رايس، أو بجهل شديد وفق مفهوم (إعادة خلط الأولويات) لهيلاري كلينتون.
مهما يكن من أمر، فالعمل كله كان قائما على تغيير خارطة العالم -ليس بالضرورة الخرائط الحدودية للدول، بل بالدرجة الأولى الإستراتيجية-، وكانت قارة إفريقيا من بينها فتم وضعها في كماشة ثلاثية الإغلاق:
الكيان الصهيوني شرقا من بوابتي إثيوبيا والسودان ثم تحطيم مصر، الناتو شمالا من بوابة ليبيا ثم استهداف الجزائر، قوات الأفريكوم في الساحل والجنوب الغربي عبر بوابتي مالي والنيجر لتحطيم مشروع (الإيكواس: دول غرب إفريقيا) وبالأخص تحطيم نيجيريا... فنجحوا في الجهة الشرقية، ثم نجحوا في جهة الساحل، ثم نجحوا أيضا في الجهة الجنوبية الغربية بحيث عطلوا مشروع الإيكواس لسنوات وسنوات.. ونجحوا شمالا في تحطيم ليبيا.. ولكن دائما توجد إنفلاتات تخرج من تقدير الإنسان وتخضع للقدر فقط، ألا وهي:
أن مصر لم تتحطم إلا نسبيا في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية ولكن تبقت لها قوة داخلية للعودة مجددا، والجزائر استطاعت قراءة خيوط العنكبوت فتجاوزتها عبر مشهد الحَراك، أما منظمة الإيكواس فقد استطاعت المضي قدما في التنسيق فيما بينها واستطاعت دولتان إفريقيتان أن تتخلصا من قبضة الهيمنة والسير في طريق جديد وهما (نيجريا وغانا)، والدليل هو ما حدث من تجاذبات بين هاتين الدولتين وفرنسا في صيف 2019م حينما بدأ العمل على وضع الرتوشات النهائية لمشروع عملة (الإيكو) المشتركة تعويضا لعملة المستعمرات الفرنسية (سيفا).. ويمكن التعبير عن هذه الإنفلاتات هنا وهناك -أي الفوضى المطلقة التي خرجت عن السيطرة في جهات، وتحرر دول معينة من هيمنة بعض الدول الغربية في جهات أخرى مستغلة تشتت الدول الكبرى والعظمى بقضايا متعددة- بالتعبير الذي قاله وزير الخارجية الأسبق في زمن الرئيس جورج بوش (لورنس ایجلبرغر)، حيث قال معترفا: «إن العالم تسوده الفوضى إلى حد كبير وإنه يُخشى أن تكون الأوضاع العالمية متجهة نحو الأسوأ وأن الوضع الحالي قد أطلق سلسلة اضطرابات في العالم كانت تحت السيطرة في ظل الثنائية القطبية».
إذن فهناك على الأقل خمسة دول كبرى حاليا في إفريقيا هي القادرة على وضع الخطوط الكبرى فيما بينها من أجل تحديد مستقبل القارة السمراء في نظام عالمي متشابك الفواعل، ألا وهي: (الجزائر، مصر، غانا، نيجيريا، جنوب إفريقيا).. ثم مستقبلا قد نشهد صعودا لرواندا في الوسط وإيثيوبيا في الشرق للتأثير في موازين القوى.
الأوراق المتوفرة على الطاولة:
وأما التحدي الكبير للجزائر اليوم، فهو تفكيك (اللغم الليبي)، فهو ليس مجرد لغم يحتوي على انفلات أمني لأسباب سياسية تافهة يتقاتل من أجلها بعض المتقاتلين، بل هو (ملف مخابراتي ومشروع عالمي) قد انكشفت فيه أسرار دول (حليفة وعدوة وشقيقة ومجاورة) لم تعلم أن الجزائر يمكنها التحصل عليها، فأتت (ديناميكية ديبلوماسية) منذ شهر ديسمبر 2019م من تركيا ومصر وليبيا وإيطاليا وألمانيا وستأتي من غيرها أيضا عن قريب رغم أن الجزائر في الحقيقة لم تقل شيئا في 2020م سوى تكرار نفس خطابها في 2011م، وهو (أنها تدين كل أشكال التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول مع تشديدها على أنه لا حلّ في ليبيا سوى الحل السياسي السلمي وأن يكون الحل ليبي- ليبي وبين أبناء البلد الواحد مع الحفاظ على الوحدة الترابية للبلاد وسيادتها).. ولكن السؤال هنا: ما لذي تغير اليوم حتى تكون ردة الفعل الدولية تجاه الدعوة الجزائرية بخصوص الأزمة الليبية مخالفة لردة الفعل المُتجاهِلة سنة 2011م رغم أن الدعوة هي نفسها والكلمات هي نفس الكلمات؟!
الجواب الحقيقي هو: أن الجزائر بمخابراتها قد أمسكت جيدا بالخيوط العنكبوتية الخفيّة للملف الليبي وعرفت جيدا خلفياته العالمية فصارت اليوم في موقع قوّة مهابة تعدُّ العدة وتستبق النوايا، فضلا عن تكبّد المتورطين في هذا الملف خسائر جمَّة. أما من يقول أن الشيء الذي تغير ليس سوى أن العالم قد تأكد أخيرا من صحة الطرح الجزائري بضرورة السلمية ومنه فهم يعترفون لها بذلك، فهو ليس سوى قولا سطحيا جدا لأن تلك الدول لديها خبراؤها الإستراتيجيون الذين كانوا يعرفون نتائج الحرب في ليبيا حتى قبل خوضها، ومنه فإنهم لا يحتاجون لدروس في ضرورة الحل السياسي أصلا لأنه يعرفونه.
وعليه، فإن معرفة الملامح العامة لموقع الجزائر الحقيقي في إفريقيا، وموقع إفريقيا من النظام العالمي، ثم الربط بين ما يحدث خارجيا مع ما يتغير داخليا، سيحقق التوازن بين الحركية الداخلية والخارجية حتى لا نقع ضحايا للاختطاف الذهني والاستلاب الفكري والسذاجة السياسية.
مؤشر مشفّر: التنازل جزء من الصعود للنّصر:
في لعبة الشطرنج.. تجد اللاعب يقدم تضحية ببعض بيادقه في أماكن مُرَكَّزَة لكي يجعل الخصم يتموضع بطريقة معينة، ثم ينقضّ عليه ببيدق واحد ويصل إلى الخط الخلفي للخصم مما يمكّنه من السيطرة الواسعة. فظاهريا قد تبدو تلك التنازلات هزيمة، ولكنها كانت مجرد خطة للنصر.
كذلك يفعل الدهاة الإستراتيجيون، سواء في السياسات العامة الداخلية أو السياسات الدولية الخارجية، يمنحون لخصومهم شبه نصر وهمي في رقعة محددة ومحدودة مسبقا ثم يسحبون منهم الميدان كليةً.
كذلك هي طريقة مواجهة الأعداء والخصوم.. فحقدهم يعميهم فيطاردونك ويطاردونك فتتنازل عن بيادق معينة في حيز محدد فيسقطون في شِراك أعمالهم.
كذلك فإن ترك الميدان فارغا في بعض جوانبه وترك الأطراف الأخرى تهرول إليه سيجعلها تكشف أسرار مشاريعها وتُظهر نياتها جيدا ثم تقع في الفخ مما يتيح إمكانية الحسم بالنسبة لصاحب الخطة بحيث أن تنازلها الظاهري كان مجرد خطوة من خطوات الصعود الحقيقي.