الأدباء والحكماء الفلاسفة عبر قرون متتالية وصلوا إلى نتيجة صحية.. وهي أن الأدب هو الحياة، والأكيد المؤكد، أن الحياة وبلا شكّ هي الواقع اليومي الذي يتعاقب على البشر والطبيعة في آن واحد. وهو من يفرض سطوته وجبروته رغم أنوف الجميع مهما كانت توجهاتهم وميولاتهم ووظائفهم ومناصبهم. تاركا وراءه شواهد وآثار مادية ومعنوية.
بقي فقط أن نعرف حجم العلاقة ونوعها بين الإنسان وهذا الواقع الثابت في لبّه والمتحرّك في ظاهره. وهو عكس الإنسان تماما لأنه بتركيبة متحركة في جميع توجهاتها ونمطية صراعها من أجل العيش سواء الكريم أو الميؤس منه؟
في الستينات وصولا إلى السبعينيات وحتى الثمانينات وأضف حتى بداية التسعينات، كانت الجزائر ترنح تحت وطأة غلاف سميك أشبه بالغلاف الجوي نظير عدة عوامل أهمها حجم الحراك الاقتصادي والسياسي، والكم الديمغرافي، وانعكاس كل هذا على السيرورة الثقافية والاجتماعية. مع وجود مؤشرات متفاوتة للحياة الدينية وبدرجات متقاربة مما مكّن كل ذلك من وجود توازنات أقرب من أنها طبيعية راكنة وهادئة؟ لكن بعد دخولنا لما يسمى بالتعددية..
انجرف سيل عارم من الخطوط العريضة الطويلة، فانخرطت الحياة الجديدة في طابور صامت لا يعلم أيا كان أوله من آخره، وبالتالي فقد توسّعت دائرة الحياة وخرجت للوجود قوافل من المجموعات البشرية الباحثة لنفسها عن دور داخل دائرة المجتمع، فلم تجلب صراحة وبشهادة الجميع إلا الكثير من المحن والصدمات بحكم التناطح العنيف والسريع بينها وبين شبه الاستقرار الذي نعمت به الجبهة الاجتماعية بعد الاستقلال مباشرة..
أنفلتت الأمور وصار هذا البلد الطيب تحت غلبة البديهيات الفيزيائية.. محتكما لقوانين تفرض نفسها بعيدا عن الأماني والرغبات، إنه عهد الإنفتاح على العالم، وهو ما وجب أن يساير الحقيقة على الأرض كما هي. وكانت هذه القفزة عبارة عن كماشة جلبت من فوق وامتصت بمخالبها كل ما تمّ بناؤه وتحصيله في ظرف وجيز وقصير، لتصبح لديه في النهاية الغلبة وأداة التحكم في مصائر الملايين، وكأن بها تضعهم في خندق واحد، ماعدا طبعا الذين نجوا من هذا الطوفان (عفوا) الانجذاب، من أصحاب المال والنفوذ الذين إما فروا للخارج وإما التزموا الصمت المريب...
إذا هو الواقع الحتمي الذي جلبته التغيرات السياسية الفوقية وعليه حدث الذي حدث، حيث دخلت الجزائر دوامة أخرى من التركيب وإعادة ترتيب البيت؟ا تعرى كل شيء وصار الإرث الأدبي أضحوكة عند بعض الأقلام الجديدة التي ختمت عليه في نعوش الايديلوجيات المتضاربة بين القطبين، وقيل أن الاشتراكية لا تصلح لكل زمان ومكان، فهي رداء سرعان ما أثبت هشاشته ورثّته ليتمزق مع هبوب أول رياح عاتية.
دخلت الأقلام ككاميرات تصوير تسرد يوميات الخوف والهلع، وكأن بها تقوم بالتأريخ بعيدا عن كل حميميات ورومنسيات مع الكون والطبيعة ليأخذ هذا النوع من الكتابات نعتا خاصا وهو أدب الأزمة. هذه الأخيرة التي لم تكن لها تجارب قبلية ولا بعدية، فقط تدخل في نطاق التجريب، بدليل أنه حينما عاد الأمن والاستقرار، عادت هذه الأقلام لتراجع نفسها فوجدت بأنها كانت تعمل نفس عمل الصحف واليوميات.. وأن الاقتراب من الواقع ليس هو أن تكون مقررا أوكاتب ضبط ، وإنما أن توظف الواقع الجاري في شقّ معين ليس إلا، حتى لا تلحقك شتيمة كتاب الأزمة.
ويوم عاد هؤلاء الكتاب الجنود إلى جحورهم. ونظروا إلى حجم الواقع المتشابك، تأكدوا بأن أمورا عدة سبقتهم ولن يستطيعوا اللحاق بها إلا بقدرة قادر، وأن زادهم نضبت، ولابد لهم من شحنات جديدة وقوية لن يحصلوها إلا إذا مزجوا الملكة الإبداعية التي هي تعني الخيال الواسع ومزجزه بما تم جنيه من قراءات لأعمال الغير من كل البقاع ؟ا
*شاعر وصحفي