«قراءة في رؤى المشهد» مجموعة قصائد لعبد الفتاح شحاتة

نهضة مبكّرة في أكثر ميادين الحياة

بقلم الشاعر المصري محمد عبد العزيز شميس

أكرمني أستاذي الذي أجله وأقدره الشاعر واللغوي النحوي البارع عبد الفتاح شحاته (عبده شحاته)، بكتابة مقدمة لباكورته الأدبية (قراءة في رؤى  المشهد) عن مجموعة قصائد ونثائر فنية حلق عبرها بفنِّيَّة تصل أحيانًا حدَّ الإدهاش للقارئ، ورغم أَنَّ هذا هو الإصدار الأوَّل لعبد الفتاح شحاته وندرة نتاجه، إِلَّا أَنَّ عوامل النُّضج الأدبيِّ والفنِّيِّ شاخصة في نصوصه، وتنبئ عن أديب برع في اقتناص الفكرة والصُّورة الفنِّيَّة، وشدِّ القارئ وإدهاشه.

مثل عازف (البيانو لا) الذي يعزف لحناً جديداً جزء منه لما سيأتي وجزءان للحزن وما تبقي يتطلب الانتباه والراحة كأنه يشكل نفسه من خلال الكلمات وما يبوح به في تفاعل إبداعي بين الواقع والطبيعة عبر سلسلة من القصائد تمتاز في وضوحها وبساطتها الظاهرية خداع الذات والصدق المتخيل بنظرة ثاقبة للحياة.
وليس ثمّة شك أن الرياح التي عصفت بالشاعر ودفعته إلى العناد والمكابدة منذ زمن بعيد حيث كان الصمت هو سيد الوقت لعلاج المكان والأعراف الاجتماعية التي تعجّ بالمحتالين والدجالين وبهذا الكم الثابت الذي يتراكم أمام الأبواب يناقش القضايا في موضوعية حوّل فيها الهمجية الطبيعية إلى بصيرة نافذة تحكمها سنين من الطاعة لعقلية ساخرة وأخرى جمالية ادخلنه في معركة حامية الوطيس بين الواقع والخيال يغوص في أعماق النفس البشرية في خفة خادعة وسهولة تمّ حبكها إلى حد الكمال بالبساطة والانسيابية، مما يجعلها قد نضجت إلى درجة الحتمية من منظار يبسط الأمور ويختزلها خلف أسماء وأقنعة متنوعة.
لذا، فإن التغيير لا يأتي دون انكسار فالجليد سينكسر مع الذوبان وهذا ما تم بالفعل خلال القصائد الذكية والغامضة جعلت من الديوان أكثر إدهاشا وهدوءاً، لكن قصائده امتازت بالتنوع والعمق وحتى بعض التعقيد لتختفي الظلمة وتسطع الشمس ولكن يبقي الربيع حلما، مما يجعل القارئ منجذبا إلى قراءة هذا الديوان حتى النهاية، آملين أن نفهم ماهية الأنا في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وعلاقة الصدق والصراحة بأي شكلٍ من الاشكال.

عيناك آخــر سجدة صليتها
ومــن السجــود تبتــل لهوا (عيناك) ص8

وأم الأسئلة هي العيون لأنها أم الدروب نصنع منها قلعة الأفكار في صوفية مطلقة كناية عن التقديس والعبادة في تبتل وهوى، والذي يعيش قريبا منها إما أن ينفرد بعلاقة حميمية أو يهتم بوجوده في كينونة تأويلية وحواجز وهمية تضرم نيران الجوانح في الدم ولهذا لا نسلكها دون عناء.
وحتى لا يكون المشهد عابراً في تأويل الشاعر عبده شحاته بين سكر العيون وماهية الشعر يرسم من خلاله لوحة يسقط فيها المعنى هاوية الحس لنعيش حالة من الإرباك المتغير بحرفية وإبداع تألق فيها فسطرت رقيقا مألوفا.

يقتلنــا الشــعــر فنكتبــه.
ألــوانـــاً منـــا وحـــــروفـــا (يقتلنا الشعر) ص10

ثم عاود بقرع الدرب نفسه يفند مساوئ الادعاء وأن لكل جمال شروط وإحكام للتعبير عن حال معنوي وأن لا صبر على اعوجاج، فإن المنطوقات التي يجري نسيانها تعود على النحو الأخطر على شكل خطاب يخلو من المعنى أو الكلام فعلاً أو احتمالاً يكسر الحال.

أمــور تحكـم الشعــــرا
وتجعــــل منــه بستــانــا (موازين الشعر) ص13

صورة أخرى بلغ بها الحد من الحضور أو المثول لتأكيد العلاقة الميتافيزيقية مع الغير بنسيان الكينونة وغدا كائن ما يشكل مبدءا للفكر، يعبرعن هوية الشعر منذ القدم وأنه منفتح علي الوجود وفق ميزان يطرح إيمان القضية التي عاش من اجلها في اللحظة نفسها.

قل للجمالإذا سكنت وريدها
هل للهوى عطر كعطر جمـان (قل للجمال) ص15

صورة أخرى رائعة تنمو فيها اللغة بوصفها علاقة قرابة عميقة ما تزال محجوبة عنا.
يرفع فيها الشاعر لغة الجمال في تساؤل مستمر محاولا استقراء المستقبل في أصالة من الدهشة والشك في ما أجمــل الدنيــا إذا هي أقبلت فتراها تتجه صوب معان لم يخلفها سوى وضع فكري محكوم باستعدادات متضاربة تقتفي آثار الكينونة الضائعة عبر الفاظ تكسر حدود المفهوم من الكلمات.

 ولــــي في العشــق تجــربــة
ولــــــي في الشـــوق أركاني (ولـي في العشـق) ص17

تجربة نحسها ذاتية الهوى حسب المتعارف عليه من المفاهيم يضعنا فيها الشاعر عبده شحاته على شواطئ اللا مفكر به اللا معقول بعد، فالعشق هنا هو الذي حطم أسواره ليوقفن.     
علي العراء خارجه كأنما لغة الشاعر في أقصى نضالاتها دون أية دلالات للتعبير عن الخسران، أتــــــرين حين.. أطيــــــل التبتل.. بمحراب عشقك.. تكــــوني مللت.. مـــــن الانتظار؟  يميناً.... كذبت وخابت ظنــونك.. حين تغار.....(تجل) ص18.
هي صورة تخلص فيها من كل مفاهيم التعبير وأدواته المعهودة ولغة الدال وحدها في (أترين) هي القادة على أن تكون حيز إلى ما يحدث عندما يتقدم على كل المدلولات عندما يخلفها وراءه دون أن يحاذر من السقوط في وجودية مسطحة بل عمد إلي سلوك يبقيه على علاقة صميمية لا تقمعه ولا تمتصه يدرك أفعاله وتصوِّر حاله فإذا هو الـمُتيَّم وكالطِّفل بين يديها.

قـــــد تنفســـتك ســــــحــراً
والمـــــدى فيــــك القصــيـر (جمال) ص21

صورة أخرى تبتعد عن المصطلحات المألوفة وتغير اتجاه البوصلة العشقية ويظهر الإبداع جلياً فيها لتعبر عن رؤية قد لا تستطيع اللغة العادية توصيلها أو الإفصاح عنها، وإذا افترضنا أن التأكيد القائل (اللغة موطن الوجود) فإن الشاعر يدرك أفعاله وتصور حاله.
حقـــــاً أطــــيــر؟ / زججتهـــا/ آه  يــا دمعـــي / لحني الخطيـر/ كالسكـــير/ عاشـــق فيـــــك تجلــــى/ ظمــــآن السعير) والواقع أن هذه الاستجابة هي الطريقة المخصوصة لشاعر راقص الموت في إشراقه الوجود، ولم يقتصرعلى ذلك فقد خاطب في قصيدة (وطن) ص22، علله ومعلولاته في تأويل يؤل إلى إيضاح معناه عندما تسيطر الفكرة التي تنقذ من المعاثر والمهالك والمخاطر فيعتزم (الرحيل) ص25 مثلما الغيوم في لغة ضبابية هاربة تجنب كل فكرة عن خصوصيته بل ارتحل وراء الدلالات بواسطة وطواغت اللمم المسجى..
هي غياهب من حمأ بتقنيات المجاز ليضاعف إمكانات اللغة ويجعلها أكثر قدرة علي الإبانة من خلال لغة حريصة جدا  لتجنب كل فكرة عن خصوصية الإرادة / العقل/ الوعي/ الحرية ويضاعف هذا المعني في قصيد (أتيتك) ص27، في تلقي هبة الوجود إذ بقي متحصناً في اللغة كمسكن أو بالأحرى في قلعته اللغوية إقامة دائمة يتلفظ بين العبارة والعبارة تراتيل، خاصة لكن الناس بالعجب صوفية خاصة أيضاً حتى ليبدو أن فلسفته هي التي تحتكر لوحدها حق فهم وتأويل الحقيقة ليؤكد الصورة في قصيد (عام جديد)، والخروج بدائرة الحياة من مخبأ ميلاد الإنسان إلي مجموعة من العناصر (الفونوتيكية) فحين نفكر في الزمن مثلا فإننا عادة ما ننطلق من ماض ممتد بطريقة لا متناهية إلى مستقبل متناه وهذا ما يرفضه الشاعر عبد الفتاح شحاته ويعتبره فهما خاطئا للزمن فينادي ويكرر النداء في قصيدة (تعال)، ليكون المستقبل هو الزمن المحوري  تعال فكن/ تعالي الغاب/ دعيني منهما / دعيني اقول في مواجهة الزمن الأقصى إن زماني سينتهي وإنا كزمن اموت في أكثر الممكنات يقينا وانني في الحالة المزاجية للقلق أكون علي وعي بأنني أعيش في مواجهة النهاية فالوجود وجودي وإن اختفيت فإلي العدم ليكون هذا هو التاريخ الذي وصفه الشاعر في قصيدة (قراءة في رؤي المشهد)، قد يشهد التاريخ.. يوماً منصفاً.. كيف القناع يزول وهي تشكل بناءاً جوهرياً للإنسان فهو بطبعه ليس كائنا عارفا يخضع للصيرورة والزمان بل يتعرض للثنائيات الثلاث (التواجد / الهم، الوقائعية / القذف، الخسران، السقوط)، مما جعله قريبا من هذا العالم يمنح الإقامة لكائنات فانية ولحن شجي يعبر عن ما تخبئه بداخله صيرورة الأحداث يا سميراً كنته.. هذا التجلي هاته الكأس فنثمل وأنتش في الوجع حرفي! الذي يتم استدراجه إلى الخارج في قصيدة (تبت يدا) تبت يدا. تبت يدا تبت يدا غامرة في تاريخ الفكر بل فهم المعني وضرورة الخروج منه وعليه ضرورة كسره، لماذا؟ لأن محتوي القصيد في دلالاته البعيدة والقريبة خطاب تفكيكي يستمد مبرراته ومشروعيته  من المطالبة لنفسه بهذا الوضع الفريد إنه خطاب لا كالخطابات المعروفة فمتي سترسو ذي الموانئ لمستقر؟ بهذه الوضعية الشاذة وحدها طالب الشاعر لنفسه امتياز السفر في قصيدة (الطير المسافر) لينال امتياز الإعفاء والتحرّر من إكراهات للغة الاستدلال والبرهان، ليتمكن من الاحتماء في غياهب ومتاهات لغته ويكتسب نوعا من الحصانة تدفع عنه كل اعتراض في ظل المسكوت عنه فيه لتتوالي بقية النصوص بين مستقبل وحاضر وقد كان بعيداً عن احتواء اللغة للملفوظ والثرثرة.
لذا استلزم الحفر في متاهات الشعر عند الشاعر عبد الفتاح شحاته والتنقل في خفايا الشعري هناك، حيث الظلمة الشديدة في قصائده والكلمة الفلسفية العميقة بعيدا عن نمط  الكتابة الشعرية ومسائلها المتعلقة بالكتابة والوزن.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024