يخترق الطريق الوطني رقم ١ سلسلة جبال الأطلس البليدي عبر مقطع الشفة، حيث وهبت الطبيعة المنطقة بموارد سياحية خلابة صمدت في وجه الزمن وتقلباته . ويعرف الطريق بهذا الجزء حركة دؤوبة لا تتوقف لأهميته الإستراتيجية في التنقل للأشخاص والبضائع، فهو رئه الولايات الجنوبية وأبوابة البرية نحو الجزائر العميقة، حيث تبرز وراء تلك الجبال الشاهقة مشاهد الحياة التي تدب في مختلف أرجاء بلديات ولاية المدية. هنا يقاوم السكان التضاريس والمناخ على مدار السنة كما قاوموا بالأمس الوجود الاستعماري وقبل سنوات فقط ظلم وقهر الإرهاب الذي كاد أن يأتي على الأخضر واليابس لولا أن الدولة والسكان حرصوا على الحفاظ على شعلة الحياة بكل ما تتستحقه من عزة وكرامة.
الخميس الماضي شهد الطريق بمنطقة النفق حادث مرور عطّل الحركة لساعات طويلة فتشكل طابور للسيارات والحافلات على مستوى الاتجاهين. كانت الساعة الحادية عشر عندما اضطرت السيارة للتوقف تحت حرارة شديدة. وفي غياب معلومات عن السبب قبل أن يُعرف، انتاب المسافرين القلق زاده حدة عدم التزام عدد من أصحاب السيارات بقواعد المرور بالتجاوز غير القانوني كالسير على الرصيف الترابي طمعا في الوصل مبكرا. هناك من السيارات من ولت الأدبار وهناك من اضطر للمكوث الى حين. هنا لا تسقط قيمة الكرامة والعزة أمام جبروت الفقر والاحتياج.
التنمية الشاملة تكسر جبروت الفقر وقساوة الطبيعة
شبكة الطرق التي عرفت تطويرا من حيث التوسيع والتجديد والتهيئة، أخرجت الجهة برمتها من العزلة لتضعها على درجة متقدمة من وتيرة التنمية الشاملة.
تزداد الحركة وقوة التنقل عبرها منح للمزارعين فرصة تنمية مداخليهم من خلال انتشار محلات بيع الفواكه المختلفة التي تشتهر بها بلدات ذات خصوصيات جغرافية ومناخية تؤهلها لتنمية السياحة مثل بن شكاو التي تمتاز بمختلف أنواع العنب والتين والإجاص والتفاح. للفواكه هنا مذاق مميز يبدو أنه يعود لطبيعة التربة ونوعية المناخ بفضل العلو الشاهق عن مستوى البحر وتشبعها بأشعة الشمس التي تزيدها بريقا. على مستوى بعض الأماكن التي حوّلها تجار الفواكه الموسمية إلى محلات رائجة يتوقف أصحاب السيارات في الاتجاهين لاقتناء ما تيسّر من المواد وإن كانت الأسعار مرتفعة فعلا ولا تشجع أصحاب الدخل المحدود على تناول ما تنتجه الطبيعة. لكن الحذر مطلوب عند الشراء فهناك البعض من الباعة من يمرّر إلى الكيس بعض البضاعة الكاسدة أو غير الجيدة، خاصة إذا ما طلب أب من ابنه التكفل بالشراء. وعن الأسعار تكرّرت نفس الاسطوانة مثل ربط ارتفاع الأسعار بالمواد المدخلة في الإنتاج الفلاحي وغيرها من الأسباب التي وضعت فاكهة البلاد في برج عاجي ويتذكر كبار السن كيف كان الفلاح في الماضي يقطف ثمار مزرعته ليبيعها بأسعار في المتناول أقل من تلك المعمول بها في الأسواق العادية وقناعته الكفاف والعفاف و''اللي يربح العام طويل..''
سيارات الأجرة والحافلات مصدر خطر
بعد مغادرة وسط مدينة البرواقية جنوبا، والذي يكثر فيه الضغط المروري، خاصة مع وجود الشاحنات إلى درجة أن بعض أجزاء الطريق قرب محطة البنزين بأعلى المدينة تدهورت، ما يعيق السياقة ويدفع إلى المناورة التي غالبا ما تنتج عنها حوادث ـ ويأمل الكثير من سكان البرواقية في فتح طريق جانبي للوزن الثقيل خارج المدينة بما يعيد لها الهدوء والسكينة والروح ـ تندفع السيارات على الطريق المزدوج الذي أنهى متاعب المرور ووفر الوقت، بينما يعبث البعض من السواق بالإفراط في السرعة خاصة سيارات الأجرة و الحافلات من نوع ڤتويوتاڤ التي تربط البليدة بعدد من المدن الداخلية والمسماة حافلات الموت في غياب ثقافة سياقة مسؤولة لدى عدد من أصحابها اللذين تراهم ''أكثر انضباطا'' على الطريق كلما صادفهم حاجز للمراقبة يقيمه أفراد الدرك الوطني والأمن الوطني. وبالفعل تقوم فرق هذه المؤسسات التي تسهر على أمن وسلامة الحياة العامة للمجتمع ومرافقة المواطنين ومرافقة الأسر في التنقل بأمن وراحة بدور فعال بالرغم مما تسببه حواجز المراقبة من تعطيل وتستغرقه من وقت.
لكن هناك من أصحاب السيارات من يتعمدون تجاوز قانون المرور بالإفراط في السرعة والتجاوزات الخطيرة، بل هناك حتى مواكب للأعراس تخرج عن إطار الحذر متسببين في حوادث. ولا يتوقف الطريق الوطني رقم واحد عن حصد مزيد من الضحايا خاصة بالجزء الكائن بعد مدينة سغوان. هذه المدينة تطل مساكنها على الطريق نفسه والذي يسبب ازعاجا للسكان، خاصة من الشاحنات في انتظار أن يتم إنجاز الطريق الاجتنابي الذي يلف المدينة وسيخلصها من اخطار محدقة. بعد اجتيازها وعبور جسر صغير يتم الانحراف يسارا باتجاه عين بوسيف التي بقدر ما تحققت مشاريع عمرانية وتربوية، وتوصيل غاز المدينة إلى البيوت، غيرت من صورتها الشاحبة بقدر ما تحتاج لاستثمارات صغيرة ومتوسطة ذات صلة بالفلاحة. غير أن عدم وصول التصنيع إليها عوضها بكسب رهان نظافة البيئة التي لا تزال سليمة. وفي نفس الوقت يتطلع شبابها ـ وهي التي برز فيها لاعب كرة القدم الزاوي ـ لمرافق رياضية أكثر من المركب الجواري مثل مسبح شبه أولمبي. وقبل أيام فقط مات طفلان في بركة ماء بأحد الدواوير المجاورة وكان المكان مخصص لطمر النفايات، قبل أن تملأه الأمطار دون أن تتخذ الجهات المعنية إجراءات تسييجه ومراقبة محيطه.
موقع ''أشير'' الأثري
وجهة سياحية لو..
بهذه الجهة التي احتلها الكولون لسنوات قبل الاستقلال تتوفر إمكانيات سياحية مميزة من طبيعة وجغرافيا وتاريخ على غرار موقع ''أشير'' الأثري الذي ينام في جوف تلك السفوح بذاكرته المليئة، ولم تكشف أسراره كلية ويحتاج لتعميق مقاربة البحث التاريخي والأثري وحمايته من ضياع المعالم. وما أحوجها لأن تدمج في الخارطة السياحية المحلية بالشركة مع المدارس والجامعات مثلا. كما تحتاج الغابات المجاورة لحماية قانونية تمنع الاعتداء عليها ممن يترصدون الفرص وأحيانا بمشاريع استثمارية وهمية. بتلك الفضاءات الطبيعية يمكن إنشاء محطات للراحة والتنزه للعائلات.
باتجاه المنطقة شرق مدينة عين بوسيف جنوبي شرق ولاية المدية، وعلى الطريق المؤدي إلى شلالة العذاورة توقف الموكب العائلي عند أولاد سالم المضيافين، ارتسم مشهد للضيافة الأصيلة وبالتقاليد البدوية الراسخة في العرف المحلي المقاوم لزيف العولمة لاحت أجواء الفرح. أنه فرح التقاء عائلتين لبناء خلية جديدة تنقل الموروث الحضاري وتنسج خيوط الهوية المحلية بكل قيمها من شهامة وسخاء وارتباط بالأرض التي تطعم الأجيال. المناسبة لم تكن مجرد لقاء تقليدي لإجراء مراسم خطوبة وإنما أخذت بعدا اجتماعيا تجاوز الرقعة الجغرافية. وفي مثل هذه المحطات لا يمكن القفز على الواقع مناقشة الآفاق المحلية ضمن المنظور الوطني. والواقع أن الجزائر العميقة تعيش على وقع التحولات التي تتم على الساحتين المحلية والوطنية مع إدراك تام للتحديات الإقليمية التي تحمل تهديدات تتطلب تعزيز وحدة الصفوف وتمتين الجبهة الداخلية من خلال الحرص على تنمية مناخ الاستقرار بالتزامن مع الدفع بوتيرة التنمية الجوارية.
البناء الريفي
غيّر وجه العمران
بهذه الناحية الواقعة أسفل جبال الكاف الأخضر الشامخ الذي احتضن رجال جيش التحرير الوطني خلال العهد الاستعماري وتكسرت على صخوره الصلبة عجرفة وقوة الجيش الفرنسي الاستعماري، وكما في نواحي أخرى من الريف العائد من بعيد بعد سنوات عجاف كرستها العشرية السوداء التي شتّت السكان وعطلت العمل، تشاهد مؤشرات النمو الفلاحي وتطور العمران بفضل برامج البناء الريفي الذي بدا يزيل بقايا العمران العائد للحقبة الاستعمارية. وبسرعة تبدو للزائر بنايات جميلة مترامية عبر القرى والمشاتي تحتضن أسرا فلاحية بسيطة وجدت في عودة الأمن والاستقرار المجال محفزا للعودة إلى الديار، حيث الأرض المعطاء لا تبخل من يخدمها. على امتداد مساحات لحقول واسعة استقبلت هذا الصيف آلات الحصاد التي قطفت كميات معتبرة من مختلف أنواع القمح الذهبي فاسحة المجال للموالين من أبناء الصحراء لاستقدام قطعان الأغنام إلى أن ينقضي الصيف فيعودون إلى مناطقهم. ومن الطبيعي في منطقة رعوية أن يكون الحديث عن أسواق الماشية في صدارة الانشغالات لدى الموالين والسكان وكل يحاول تبرير موقفه، فمن جانب الموالين يرفعون حججا تتعلق بغلاء الكلأ وأعباء تربية الأغنام ويحمّلون المسؤولية للمضاربين، بينما لا يبدو المواطن مقتنعا بالأمر الواقع، متسائلا منذ الآن عما إذا كان كبش العيد في المتناول.
مراسم لقاء العائلتين الكريمتين الذي جمع الأقارب والجيران حوّل طبق من الكسكسي الحر المعد بأنامل الحرائر، ميزها مشاركة إمام المدينة الشيخ كربوب موسى الذي لم يبخل بالدعاء للجزائر بإدامة نعمة الأمن والخير واللحمة بين أبنائها على كامل ربوعها وبموفور الصحة لرئيس الدولة أيضا في رسالة للمجتمع للتعبير على مدى المكاسب التي حققتها البلاد على مختلف الجبهات بدءا بالمصالحة والوئام اللذين أزاحا كابوس الإرهاب والعنف، وحررا النفوس من الخوف. لقد هرب أغلب السكان يومها علق أحد المواطنين واليوم ها هي مؤشرات الحياة تتأكد أملا في المزيد على أرض لا تبخل بالعطاء للسواعد التي تخدمها بإخلاص ووفاء، وهي ذات السواعد التي تتمسك بالدفاع عنها كلما ناداها الواجب.