يعملون بلا توقف منذ ساعات الفجر الأولى

فلاحون يجنون محاصيلهم تحت حرارة لافحة في الشهر الفضيل

تيارت: عمارة - ع.

شرب الماء عند الاغماء وسهرات رمضانية مؤجلة إلى إشعار آخر

 هو موعد حصاد المحصول الذي انتظره الفلاح لأكثر من عشرة أشهر، لم تثنه خلالها التقلبات الجوية، ولا التعب .. لم تنل من عزيمته وآماله في موسم زراعي جيد، عكس التهويل الذي سمعناه هنا وهناك عن الجفاف...
 خرج الفلاح متفائلا بزرع وفير يحصده .. اليوم هو موعد خروج هذه الروح إلى عالم الحياة، وكما لم توقفه برودة الشتاء، لم تحبسه في منزله حرارة الصيف وطول ساعات الصيام. تنقلت» الشعب» الى حقول تيارت لتنقل لكم يوم حصاد كامل لفلاحين شباب لم يتعد سنهم الـ24 سنة، يتفانون في جني المحصول من ساعات الفجر الأولى إلى قرابة آذان المغرب والإفطار.
الحصاد والصوم...المعادلة الصعبة
كانت وجهتنا الحدود بين بلديتي الشحيمة ومدريسة جنوب ولاية تيارت حيث التقينا شبابا يقومون بعملية الحصاد في عز شهر الصيام. البداية كانت بعد تناول وجبة السحور، حيث  يخرج الشباب معلنين انطلاق عملية الحصاد التي تبدأ بتفقد الحاصدة من مازوت وزيت تشحيم وتنظيف غرابل الحاصدة واحصاء الأكياس ودرجة ضغط العجلات الأربع والمحرك وغيرها من الترتيبات التي ألف سائق الحاصدة القيام بها قبل الخروج لجني المحصول.
 أما مرافقه الذي يسمى «الرباط» وهو شخص ثانٍ يرافق السائق في جميع عمليات الحصاد واصل كلمة «رباط» من العملية التي يقوم بها  فهو يربط الأكياس التي تمتلئ جراء عملية حصاد حبوب الشعير والقمح اللّين أوالصلب.
 خالد شاب في الـ 26 من العمر قال لـ»الشعب»: «إن الرباط يشقى ويتعب أكثر من السائق والميكانيكي وقد يشتغل السائق مهنتي السائق والميكانيكي واللّحام لكون الحاصدة قد تتعرض لكسر أثناء العمل جراء الاحتكاك وتأثير الحرارة الشديدة سواء من الطقس أومن الاحتكاك، فالرباط هو من يحضر الأكياس و»الميش» وهي قطع أحزمة صغيرة تحضر مسبقا لربط عنق الكيس الذي يصنع غالبا من خيوط صوفية ويباع في محلات الخردوات العامة.»
وهنا يتدخل يوسف قائلا: «عملية الحصاد تبدأ عند الساعة الثامنة والنصف الى التاسعة رغم أن السائق والرباط والميكانيكي ينهضون مبكرا ويشرعون في العمل بعد بزوغ الفجر إلا أنهم ينتظرون «ليزاق» «. «ليزاق» مصطلح يفقهه الفلاحون ومعناه أن جني الحبوب يتطلب صلابة السنبلة التي يجب أن تجف حتى تكون جاهزة للحصاد ولا يكون ذلك خلال برودة الصباح، فقد تتوقف عملية الحصاد إذا تغير انخفضت حرارة الجو، سيما إذا تساقطت الامطار».
 *محمد واحد من الشباب الذين وجدتهم «الشعب» يعملون بهمة في جني المحصول الزراعي سألته عن الحصاد ومشقته في رمضان فقال: «تعوّدت العمل في ظروف أقسى من هذه، فرمضان والصيام لا يعني التخلي عن محصول كان بالنسبة لي أكثر من ابن اعتنينا به لشهور طويلة، اليوم نحن نحصد ما زرعت أيدينا، ولولا الاهتمام والعناية لما كنا هنا نعمل لأن الحصاد هو نتيجة حتمية لعمل جاد طوال الفصول الماضية فمن الحرث الى البذر الى السقي كانت هذه اللّحظة الحلم الذي انتظرناه طويلا.»
أضاف محمد: «خيارنا الوحيد هو العمل لأنه يضمن للكثيرين لقمة العيش ورزقهم، أنا أعمل سائقا للحاصدة أتقاضى أجرة بين الـ 2000 و3000 دج يوميا، بينما يتقاضى مالك الحاصدة أكثر من هذا المبلغ في الساعة الواحدة أوفي الهكتار الواحد،....تستطيع الحاصدة أن تجني محصول لأكثر من 20 هكتارا يوميا، ولكم أن تجروا عملية حسابية.».
 نحن نخوض مع هؤلاء الشباب تجربة الحصاد شعرنا بحرارة شديدة، وبعد مرور ثلاث ساعات كانت الحاصدة كالفرن، من اقترب منها لفحته ألسنة حرارة مرتفعة، وهنا نظرت الى محمد وطلبت منه الابتعاد عن هيكلها الحديدي الذي بدا وكأنه ينصهر تحت أشعة الشمس الحارقة، ولكن هيهات أن يكون ذلك، لأنه يعمل دون أن يتذمر من الظروف المحيطة به، هكذا تعودوا وهكذا كان عملهم دائما.
 الضرورات تُبيح المحظورات
 من خلال دردشتنا مع محمد، يوسف وخالد علمنا أنهم لا يستفيدون من وقت راحة مستقطع إلا في حالة تعطل الحاصدة أوعند نفاذ الاكياس أوانتهاء الحصاد في حقل فلاحي والتنقل الى حقل آخر أوما يسمى بـ» الحصيدة»، أوفي حالة ما إذا عمل السائق لأكثر من عشر ساعات يستبدل بآخر لصعوبة مواصلة العملية لنفس الوتيرة خاصة وأنها تزامنت مع الشهر الفضيل.
حتى بعد الافطار يواصلون عملهم الى غاية الساعة الثانية صباحا ما يجعلهم ينامون لأقل من 4 ساعات فقط في اليوم، لذلك فكلمة السهرات الرمضانية محذوفة من قاموسهم الرمضاني اليومي، لأنهم ينامون وهم منهكون لا يستطعون الحراك حتى بسبب التعب، ولأنهم سيكون عليهم النهوض قبل السادسة صباحا من يوم الموالي.
 عن طرائف الحصاد، سرد لنا خالد انه يضطر في بعض الأحيان الى شرب الماء وهوصائم قائلا في هذا المقال: «منذ سنوات اضطررت الى ذلك بسبب فقداني للوعي بسبب العطش، ولم استفق حتى شربت قليلا من الماء تطبيقا للمقولة «الضرورات تبيح المحظورات»، فالمحاصيل الزراعية خاصة الحبوب لا يمكن تأجيل موعد حصادها وإلا خسر الفلاح محصوله وكانت سنة كارثية عليه.
مخاطر لم تثن عزيمتهم
 عن المخاطر التي يتعرض لها العاملون في حصاد الحبوب، حدّثنا خالد عن صعوبات وطوارئ غير متوّقعة ومنتظرة، ففي بعض الاحيان تبتلع الحاصدة أجزاء أحد العاملين خاصة «الرباطين» ومنهم من مزقت رجله ومنهم من التهم نصف جسمه، لذلك يحرصون على الحيطة والحذر حتى لا يكونوا احدى ضحاياها آلة الحصاد المدمرة.
 ما زاد الطين بلة، عدم استفادتهم من التأمين  بحجة أن العامل في هذا المجال لا يعمل سوى شهرين أو أقل في فصل الصيف ولا يمكن تأمينه في هذه المدة القصيرة، لذلك غالبا ما يشغل أصحاب آلات الحصاد ذويهم حتى لا يطالبون بالتأمين ولا يحاسبون عن أي حادث يقع أولقلة اليد العاملة في هذا لمجال.
قبل مغادرتنا لكل من خالد، محمد، يوسف وعبد القادر، لاحظنا ظاهرة شائعة في المناطق الفلاحية حيث تعوّد صاحب المحصول إخراج ما يسمى بـ «العشور» أي عشر ما جناه من المحصول للفقراء والمساكين، فتراهم متجمعون أثناء عملية الحصاد، ينتظرون «العشور» وهو زكاة الحبوب وغالبا ما يشترك شخصين من طالبي العشور في كيس من الحبوب، وغالبا ما يبيع المستفيدون من العشور الحبوب بمجرد مغادرتهم الحقول ويشترون بثمنها احتياجاتهم.
...سواعد نفتخر بها
تركنا أصدقاءنا الجدُد وهم يعملون بجد في حصاد المحصول الزراعي غير آبهين بمشقة الصوم تحت حرارة الصيف اللافحة ...رأيتهم يعملون في تلك الظروف، متحدين الصعوبات، متخذين من قساوتها قوة إضافية في معركة الأمن الغذائي.

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024