ريادة في فنون النقش على الجبس والزخرفة
أحيائها عتيقة وشوارعها ضيّقة تزدان بأشكال هندسية صحراوية، أقواس وقباب جبسيّة قديمة حيثما وجهت ناظريْك، إنك في مدينة ڤمار، جوهرة الصحراء الجزائرية، وبلدة العلم والعلماء والثقافة التي أنجبت علماء ومفكرين بارزين في الجزائر والعالم العربي أشهرهم شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله.
مدينة ڤمار بأصالتها وسحر جمالها، لا تزال صامدة ومحافظة على كنوزها الحضارية ومعالمها العريقة، يتقدمها مبنى أوّل زاوية في العالم شيّد في القرن الثامن عشر ميلادي، المصقول بأبهى أشكال العمران الصحراوي البديع الذي يشد الناظرين إليه، ناهيك عن أحياء المدينة العتيقة ذات الأسوار العالية والأبواب المزخرفة التاريخية.
الزائر لمدينة ڤمار الواقعة على بعد 15 كلم شمال مقر ولاية الوادي، يُلاحظ من أول وهلة ضمن نطاق شارعها الرئيسي ذلك النمط العمراني الصحراوي المميز بكثرة الأقواس والقباب والزخارف، المترائي في شكل موحد متجانس ومتكتل على مد البصر، ليضفي للمشهد البهي رونق المساجد العتيقة المنشأة على السياق العمراني المغاربي سحر آخر مبهر ومبرز لجودة أفكار وإبداع مؤسسيها الأوائل.
تزاوج بين الطبيعة والعمران
يُحيط بڤمار كثبان رملية وواحات نخيل وبساتين خضراء مترامية الأطراف، زادتها جمال ساحِرٌ على جمال تراثها الحضاري وعمرانها الأصيل الذي تفردت به عن ما جاورها، ليكون التزاوج بين الطبيعة والعمران العتيق متجليا بكل أركانه في لوحة فنية خلابة حقيقة بصرية وليست خيالا على ألواح الرسامين.
وقد منحت وضعية عبور الطريق الوطني رقم 48 للمدينة منذ عقود سياقا تنمويا واقتصاديا عزز من تطورها، وساهم إلى حد كبير في إبراز مكنوناتها الحضارية والسياحية والحفاظ عليهما.
في هذا الصدد، عكفت السلطات المحلية والولائية منذ سنوات على تفعيل الجانب السياحي للمدينة قصد تحويلها إلى مقصد للسياح والباحثين، والترويج لكنوزها التراثية الجذابة عبر تنظيم التظاهرات والمهرجانات الوطنية، الأيام السياحية، المعارض التقليدية الصحراوية وغيرها من الفعاليات الثقافية والاجتماعية.
جذور المدينة
قال الدكتور عبد القادر عزام عوادي، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة الوادي، بأن مدينة ڤمار تحمل بين كثبانها وحقولها إرثا حضاريا وعلميا ودينيا وعمرانيا عريقا، مازال إلى اليوم محط أنظار الكثير من سياح الداخل الجزائري أو من خارج الوطن.
أوضح عزام عوادي لـ»الشعب ويكاند»، وجود عدة روايات تتحدث عن تسمية بلدة ڤمار، وكتب عنها الكثير من المؤرخين والباحثين سواء في القديم أو الحديث، من أبرزهم الشيخ الطاهر التليلي، وشيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله، وصاحب كتاب الصروف إبراهيم العومر.
من بين الروايات حول أصل تسميتها بحسب الدكتور عزام عوادي، ما نسب إلى انتشار طير من الطيور يسمى «القمري» بضم القاف، ومنها نسبة إلى بلدة من بلدات الأندلس تسمى قمار بضم القاف أيضا، بالإضافة إلى نسبة إلى عود طيب يأتي من الهند يسمى القماري، كما كان أحد علماء بلدة قمار وفقهائها الكبار يسمى الشيخ خليفة بن حسن القماري يدون اسمه في كتاباته بنسب «الأقماري» نسبة إلى بلده قمار.
أضاف المتحدث مصدرا آخرا للتسمية وجذورها تعلق بما كتبته عدة مصادر قديمة جدا حول منطقة واد سوف التي ذكرت اسم « سوف أجمار»، يرجح أنها تعني منطقة قمار حاليا، وهو البحث الذي يعكف عليه أحد الباحثين من ذات البلدة الدكتور محمد ماني، وسيصدر عمله عن قريب ليميط اللثام عن العديد من المسائل التاريخية حول المنطقة.
الأبواب الثلاثة الكبرى
يعتبر الدكتور عبد القادر عزام عوادي، مدينة ڤمار أحد أهم وأقدم الحواضر في واد سوف والجنوب الشرقي، باعتبارها ثاني أو ثالث أقدم بلدة وحاضرة في تاريخ المنطقة، إذ لا يمكن للباحثين على ضوء المعلومات المتاحة تحرى الدقة في ترجيح أقدمية بلدة عن أخرى، مشيرا أن كل الكتابات تأخذ في النهاية عن مصدر وحيد تقريبا وهو تاريخ العدواني.
وبحسب عزام عوادي، بُنِيتْ مدينة ڤمار مثلها مثل باقي الحواضر الصحراوية القديمة على شكل شبه دائري بصور يحميها من هجمات القبائل المعادية، ويوجد بوابات متعددة لدخول وخروج الأهالي والأجانب، حيث شيّد الصور بأبوابه بعد أن تم استقرار الأهالي في المنطقة واهتمامهم بالفلاحة نظرا لخصوبة الأرض ووفرة المياه الجوفية.
كما تحتوي المدينة على ثلاثة أبواب كبرى تتمثل في الباب الظهراوي والباب الشرقي والباب الغربي، ما يزال يظهر منها لحد اليوم جزء كشاهد على التحصين والعمران القديم، بالإضافة إلى وجود باب صغير جهة الشمال يسمى بالبويبة، وهو الذي بقي محافظا على شكله العمراني والهندسي العتيق، يضيف المتحدث.
استقطاب عالمي للزاوية التجانية
تمتلك مدينة ڤمار، كما يقول الدكتور عبد القادر، العديد من الآثار التاريخية والتراثية، أهمها وأبرزها مقر الزاوية التجانية، كونه أول مقر أنشأ على المعمورة لأكبر طريقة دينية صوفية في العالم الإسلامي، حيث أمر حينذاك شيخ الطريقة التجانية الشيخ أحمد التجاني ببناء الزاوية في بلدة ڤمار، نظرا لما يدركه شيخ الطريقة التجانية وبعد نظره في أهمية بناءها في هذه البلدة، وتم تأسيس الزاوية التجانية بالفعل سنة 1789 م.
وتعد الآن الزاوية التجانية بڤمار مزارا للمريدين والأتباع من كل أنحاء العالم، ومحط رحال الكثير من عشاق الزوايا وأضرحة الأولياء والتصوف والمهتمين بالسياحة الدينية الروحية.
أقدم مدرسة تعليمية
أكد الدكتور عزام عوادي، أن ڤمار تحتضن أحد أقدم المدارس في عموم المنطقة، وهي مدرسة رضا حوحو حاليا، أو مدرسة الذكور في العهد الاستعماري، تأسست سنة 1907 م واحتفل بذكراها المئوية منذ سنوات، وظلت محافظة على جزء من هندستها القديمة إلى اليوم.
كما تحتوي البلدة، بحسب الباحث، على المنزل الذي ولد فيه شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله، منوها أنه يحتاج إلى اهتمام وإعادة وترميم من طرف الجهات الوصية حتى لا يندثر هذا الركن التاريخي، وبالرغم من أن المنزل يقع خارج المدينة ومسالكه صعبة نوعا ما، وأصاب جزء منه الانهيار إلا انه يشهد زيارة الكثير من الباحثين والطلبة وأصدقاء شيخ المؤرخين.
موطن العلم والعلماء
في الجانب العلمي وتخريج العلماء المعد شهرة مدينة ڤمار، قال الدكتور عبد القادر، بأنها تعد فعلا مهد الكثير من العلماء في شتى العلوم والفنون، ولعل أبرز هذه الأسماء الفقيه والعالم الموسوعي الشيخ خليفة بن حسن القماري صاحب كتاب «جواهر الاكليل في مختصر خليل»، وهو عبارة عن منظومة تضم أكثر من عشرة آلاف بيت في المذهب المالكي عن مختصر الإمام خليل، وقد قام العلامة الشيخ باي بلعالم بشرح منظومة خليفة بن حسن في عشرة مجلدات كاملة تم طباعتها مرة واحدة ونفذت وتحتاج لإعادة الطباعة مرة ثانية.
وبحسب الباحث، من علمائها أيضا في القرن العشرين الشيخ الطاهر التليلي، أحد أبرز علماء المنطقة في مرحلتي الاستعمار والاستقلال، كان مربيا ومناضلا وفقيها، ونشر الكثير من الكتب والمؤلفات في شتى العلوم والفنون كالتاريخ واللغة والفقه وغيرها من العلوم، إذ لا تزال مخطوطاته لليوم تحتاج للطباعة من طرف المهتمين.
كما يعد شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله وهو علم من أعلام الجزائر من العلماء والمفكرين الذين أنجبتهم البلدة، ناهيك عن علماء كثر في تخصصات علمية وفيزيائية وطبية هم الآن في كبريات المؤسسات العلمية والمعرفية خارج الوطن مثل التجاني بوجلخة عالم الرياضيات، واحمد شنة في الالكترونيات وغيرهم كثير، مثلما أضاف عزام عوادي.
قباب في كل مكان
عَدّدَ مدير الديوان السياحي بڤمار محمد العيد محمودي في حديث مع «الشعب ويكاند»، كثير من المقومات السياحية المتنوعة وموروث ثقافي تزخر به البلدة، جعل منها قبلة للزوار من داخل الولاية وخارجها. واعتبر محمودي الزاوية التجانية وما تزخر به من نقوش وهندسة معمارية فريدة من نوعها أهم المعالم بمدينة ڤمار لا سيما أنها أول زاوية تشيّد في العالم، إضافة إلى المدينة العتيقة التي يعود بنائها للقرن الخامس عشر ميلادي حول مسجد سيدي مسعود، وتحتوي على أبواب كانت المنفذ الوحيد للدخول إليها وأهمها وأولها الباب الغربي، كما تتميز بأزقتها الضيقة والقباب التي تغطي بيوتها كباقي مدن وبلدات سوف.
وعلاوة على ذلك، تشتهر المدينة بجودة صناعاتها التقليدية المتأصلة بين الساكنة منذ القدم، ورواج حرف النسيج والنقش على الجبس وصناعة مشتقات النخيل، مع تميزها بموروث ثقافي شعبي من رقصات وشعر ذاع صيته في ربوع وادي سوف، وكلها مقومات كانت معززة لنشاط الحركة السياحية المحلية، يضيف مدير الديوان السياحي بڤمار.
متحف المدينة
للحفاظ على موروث المنطقة الثقافي والتاريخي وتثمينه والترويج له وطنيا ودوليا، قام الديوان السياحي بڤمار بتأسيس متحف مكون من عدة أجنحة، تتضمن مقتنيات تراثية وصناعات تقليدية تعكس طرق عيش السكان وثقافة المدينة، وبعض الوثائق التاريخية. وبحسب محمودي أسس الديوان السياحي بڤمار سنة 1983 م، ويعمل على حماية التراث المحلي وترقية السياحة والصناعات التقليدية بالمنطقة، حيث لعب دورا هاما في التعريف بالمدينة وما تزخر به من مقومات سياحية متنوعة وموروث ثقافي زاخر.
المتحف مصمم بشكل هندسي تقليدي، ويزوره سياح من كل ولايات الوطن قصد الإطلاع على المعروضات والاستمتاع بمشاهدة تفاصيل تراث المدينة الأصيل، ويكون الإقبال مكثفا عليه أثناء الفعاليات والتظاهرات المحلية والوطنية.
تبادل سياحي وثقافي
بالنسبة لأنشطة الديوان السياحي بڤمار، أبرز محمودي، العديد من التظاهرات المحلية والوطنية المنظمة على مدار السنوات الماضية، أهمها المشاركة في الصالون الدولي للسياحة والأسفار وافتكاك المرتبة الأولى دوليا.
كما شارك الديوان في العديد من المهرجانات الوطنية والدولية، وتبادلات سياحية وثقافية كثيرة، والإشراف على أنشطة ترقوية مثل تنظيم الأيام السياحية والثقافية لمدينة قمار، التي وصلت هذه السنة للطبعة العاشرة وسطر فيها فعاليات متنوعة ومسابقات من شأنها التعريف بالمنطقة، كما كان للديوان العديد من المشاركات في الحصص الإعلامية للتعريف بالسياحة المحلية، يضيف مدير الديوان السياحي بڤمار محمد العيد محمودي.
ريادة في النقش على الجبس
أتقن حرفيو مدينة ڤمار خلال القرنين الماضيين النقش على الجبس حتى ذاع صيتهم في كل أرجاء البلاد، ونتيجة لذلك اُستعين بهم في زخرفة المساجد والقصور العتيقة وصالات الضيوف وغيرها المرافق الخاصة والعمومية، حيث صمدت كثير من أعمالهم الفنية إلى اليوم في كثير من المنشآت بالرغم من أنها أنجزت في منتصف القرن الماضي.
وقد نقل فنانو النقش على الجبس المهارات الفنية بين أجيالهم على مدار الحقب الزمنية، واستمروا على ذلك النهج بنفس الوتيرة والمهارة، أبدعوا من خلالها في تزيين الجوامع والمدارس القرآنية بجماليات الزخرفة والعمارة الإسلامية، إلى حين إدراج فروع وتخصصات لهذه الحرفة الهامة على مستوى الهيئات التكوينية.
جماليات النقش على الجبس الڤماري وتمتعه بالأشكال الزخرفية المتنوعة جعل منه محط أنظار المختصين واهتمام مختلف الباحثين في مجال العمران والهندسة، يضاف إلى كونه مصدر رزق لكثير من العائلات، ودوره في توفير مناصب شغل فنية بصفة متواصلة بالنظر لارتباطه بعمليات البناء والتشييد سواء الخاصة أو العمومية.
نحو إنعاش الحرفة
أكد مدير غرفة الصناعة التقليدية والحرف بالوادي عليلي ميمي في تصريح لـ»الشعب ويكاند» بأن النقش على الجبس يعتبر من بين الحرف والمهن التي ميزت ولاية وادي سوف وتحديدا مدينة ِقمار، اشتهر فيها قديما الحرفي عمر قاقة بتشييد البناءات بالاعتماد على الوسائل البسيطة، وحصل من خلالها على أوسمة وميداليات.
من بين أعمال حرفيي المنطقة ذات البعد الوطني في مجال النقش على الجبس، بحسب عليلي، يوجد القاعة الشرفية بمطار هواري بومدين، وفي ولاية أدرار جامع الشيخ العلامة سيدي محمد بلكبير، ومقر البريد المركزي بالجزائر العاصمة، منوها أن وزارة السياحة والصناعة التقليدية أولت اهتماما كبيرا بهذه الحرفة وخصصت لها جهازا يُعرف بنظام الإنتاج المحلي.
في هذا الإطار، تعتزم غرفة الصناعة التقليدية والحرف بالوادي تنشيط وإعادة بعث هاته الحرفة بالتنسيق مع عدة حرفيين يمتلكون مهارات عالية، خصوصا وأن نظام الإنتاج المحلي أو ما يعرف بـ SPL سابقا أنشأت جمعية مهنية بقمار تضم 165 منخرطا، سيجري مرافقتهم وتشجيعهم لبعث هاته الحرفة وتكوين الشباب فيها عبر دور الصناعة التقليدية بالوادي وڤمار وجامعة، والعمل على تحسين مستواهم وصقل مهاراتهم وتطوير المستوى التابع للغرفة ومدارس التكوين.
مدينة ڤمار التي تحتضن مطارا حديثا ومهما على الصعيدين الوطني والدولي، لا تزال بالرغم من ما تمتلكه من مؤهلات سياحية تنتظر التفاتة حقيقية من السلطات الوصية لترقية هذا القطاع وتحقيق نقلة سياحية بها في قادم المراحل، وأولوياتها تهيئة الظروف لإنجاز مرافق استقبال كالفنادق والمراقد ومشاريع منتزهات وتسلية كبرى، وكذا ترميم الآثار القديمة التاريخية على غرار بيت شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله وجعله متحفا وطنيا ومكتبة علمية لانجازاته تكون قبلة لكل الباحثين من داخل الوطن وخارجه.