يعيش قطاع تربية المائيات بالمناطق الصحراوية بالرغم من الخطوات المحقّقة فيه وآفاقه الواعدة، على وقع بعض التحديات تبرز أهمها في وفرة الغذاء السّمكي وضبط عملية تسويقه، إلاّ أنّ نقص المشاريع الاستثمارية، يبقى الرّهان الأكبر أمام المسؤولين لتذليل الصّعوبات التي تحول دون تنفيذ عشرات المشاريع وتوسيع هذا النّشاط، وحلّ إشكالية التّسويق حتى توفّر المنتجات السّمكية للمستهلك البعيد عن البحر، حصّته الغذائية من البروتين بسّعر مناسب.
إيمان كافيحظي قطاع تربية المائيات باهتمام كبير وواسع، في السّنوات الأخيرة، نظرا للتّجارب المميّزة والتي كان نشاط دمج تربية المائيات بالفلاحة عبر استزراع أسماك المياه العذبة في أحواض الّسقي الفلاحي كالبلطي النيلي والسلور الإفريقي (سمك القط)، من بين النّشاطات ذات الإضافة الإيجابية فيه، فضلا عن المرافقة التي توفّرها مختلف هياكل قطاع تربية المائيات من مؤطّرين ذوي كفاءة للمتابعة الميدانية والتقنية للفلاحين.
وفي إطار ما يهدف إليه الاستثمار في مجال تربية المائيات من مساهمة في إيجاد موارد بديلة للرّفع من دخل الاقتصاد الوطني، كان من المنتظر أن يساعد انتشار ثقافة الاستثمار بهذا المجال، في استحداث مشاريع اقتصادية بطاقات إنتاجية كبيرة وفي توفير مناصب شغل عن طريق إطلاق مشاريع استثمارية ذات أهمية مختصّة في تربية سبيرولينا (طحلب مائي)، الجمبري، تصنيع أعلاف الأسماك، مشاريع نقل وتوزيع وتسويق المنتجات السّمكية، استغلال الأرتيمياء المتواجدة بالشّطوط ومشاريع في الصّيد القاري.
جهود كبيرة بُذلت للتّعريف بنشاط تربية المائيات بفروعها سواء تربية الأسماك، تربية الطّحالب أو القشريات كالجمبري، كما ساهم إنشاء فرع في تربية المائيات على مستوى جامعة قاصدي مرباح، بالإضافة إلى المساعي الحثيثة لتعزيز التعاون مع قطاع التكوين المهني، في تكوين وتشجيع الفلاحين والشباب الراغبين في الاستثمار في نشاط تربية المائيات وإنشاء مؤسّسات صغيرة ومتوسّطة أو حتى كبيرة بالنسبة للمستثمرين الكبار، الذين تبقى اليد العاملة لديهم في حاجة للتّكوين المستمر. ولحد الآن يبلغ عدد المهنيّين أكثر من 123 مهني، بالإضافة إلى عدد من الجمعيات المهنية النّاشطة على المستوى الجهوي في كل من ولاية ورقلة وولايات مجاورة كالأغواط، بسكرة، غرداية، الوادي وإيليزي.
مشروع الجنوب الكبير
يقول المدير المركزي لتنمية وتربية المائيات بوزارة الصّيد البحري والموارد الصّيدية، رشيد عنان، إنّ القطاع وبهدف إدماج تربية المائيات مع الفلاحة واستزراع الأحواض الفلاحية، أطلق، منذ نحو 5 سنوات، مشروع الجنوب الكبير انطلاقا من ولاية بشار غربا إلى عين صالح ومرورا بورقلة، بسكرة، غرداية والوادي شرقا، تمّ من خلاله استزراع 2000 حوض فلاحي عبر مستثمرات فلاحية في هذه المناطق الجنوبية، حيث لاقت التجربة رواجا كبيرا.
ويشير عنان إلى أنّ العديد من الفلاحين استفادوا من عملية التّكوين لتدعيم نشاط إدماج تربية المائيات بالفلاحة، كما تمّ إرسال عدد منهم إلى دولتي الصين ومصر للتكوين في تربية الأسماك في المياه العذبة، ودمج هذا النّشاط بالفلاحة.
وفي إطار مساعي تطوير هذا الميدان، تمّ تسجيل عملية لتحديد مناطق النّشاطات من أجل الاستزراع السّمكي، ويجري العمل على تسريع وتيرة الإنجاز بالتنسيق مع وزارة الداخلية بهدف توزيعها على الشباب، كما يجري العمل على التأسيس لمجمّع للمهنيّين والباحثين بهدف مرافقة المستثمرين تقنيا.
توسيع النّـشاط
في مجال البحث، تقدّم المحطّة التجريبية لتربية المائيات الصّحراوية التابعة للمركز الوطني للبحث والتنمية في الصيد البحري وتربية المائيات، المتواجدة ببلدية حاسي بن عبد الله (20 كلم عن عاصمة الولاية ورقلة)، أبحاثا في التفريخ وصناعة الأعلاف، وهدفها إنتاج أكبر عدد من الأصبعيات وتوزيع هذه الكميات على المهنيّين من أجل استزراعها في أحواض السقي الفلاحي مع ضمان مرافقتهم، بالإضافة إلى تنظيم دورات تكوينية لفائدة المهنيّين، الطّلبة والفلاحين.
وعملا ببنود الاتّفاقية المبرمة بين المحطّة وجامعة قاصدي مرباح لاستقبال الطّلبة في إطار تربّصات ومذكّرات التخرج، توفّر المحطة التّجريبية الدعم البيداغوجي للطلبة، كما تضع مواضيع بحث على أساس الاقتراح بين المحطة والجامعة، من بينها إنتاج البلطي وحيد الجنس، عملية تسمين البلطي، صناعة الأعلاف بمواد أولية محلية، عملية الزراعة الأحيومائية، حسبما أوضحه مدير المحطة محمد حميدات خلال زيارتنا للمحطّة.
نتائج مـشـجّـعة في الزّراعة الأحيومائيّـة
حقّقت تجربة الزّراعة الأحيوميائية وهي عبارة عن نظام زراعة، يعتمد على التكامل بين الإنتاج الحيواني والإنتاج النباتي، ويدمج ما بين نشاط تربية المائيات والزراعة بدون تربة، نتائج مشجّعة.
وقد كانت تجربة المحطّة التجريبية، خلال السنة الماضية، ناجحة، ويجري في الوقت الحالي العمل عليها، بحيث تتم الزراعة في هذا النوع من النشاط، عبر أنابيب تضمن وسطا ملائما للسمك والنبات بدون الحاجة للأسمدة.
ويُعتمد فيها على زراعة شتلة نبات الخس في الأنابيب، ويقوم النبات في إطار نموذج الزّراعة التكاملية بفلترة المياه، وفي المقابل، يستغل النيتروجين الذي يتحصل عليه من خلال مخلّفات الأسماك.
هذه التّجربة يتم الانطلاق فيها عادة، خلال شهر جانفي، وتستمر، إلى غاية أفريل، لتقييم النتائج، وتعد من بين مشاريع البحث التي لا تحتاج لمساحة كبيرة، وترتكز على نظام اقتصاد للمياه، حيث لمدة 40 يوما لا يتغيّر الماء، وعند تحليل المياه لقياس نسبة المواد السامة بالنسبة للسمك، تكون منعدمة وهذا دليل على أنّ الزراعة الأحيومائية توفّر وسطا بيئيا متوازنا لإنتاج النّبات والسمك في نفس الوقت باعتماد زراعة بدون تربة مع ضمان اقتصاد المياه المستعملة.
كورونا تقضي على جمبري الصّـحراء
افتتحت المزرعة النموذجية لتربية الجمبري وهي نتاج تعاون مشترك بين الجزائر وكوريا الجنوبية سنة 2015، وكانت تجربة ناجحة على الصعيد العلمي بعد دخولها في مجال الإنتاج التجريبي، من خلال أقلمة وتسمين يرقات الجمبري، حيث تم إنتاج حوالي 700 كيلوغرام من الجمبري أو الجمبري ذي الأرجل البيضاء، الذي يتميز بأنه يتقبّل هذا الوسط حسب معلومات إطارات المزرعة.
وهي كميات وجّهت للبحث تماشيا مع نظام عمل المزرعة النموذجية، الذي يهدف إلى أخذ أكبر عدد ممكن من المعلومات وخصائص هذا النوع من الجمبري، من أجل تحسين بروتوكول التربية، حسبما ذكره أيوب حمدي مهندس بالمزرعة، حيث يمكن تقديم معلومات وتسهيلات للمستثمرين الراغبين في النشاط بهذا المجال، باعتبار المزرعة مركزا لترشيد وتوجيه الراغبين في الاستثمار في مجال تربية الجمبري.
إلاّ أنّ وقع انتشار فيروس كورونا وتأثيره على حركة التنقلات الدولية كان وخيما على مستوى العديد من الأصعدة، على غرار مشروع المزرعة النموذجية لتربية الجمبري الواقعة ببلدية حاسي بن عبد الله بولاية ورقلة التي تأثر نشاطها بشكل كبير، حيث حتّمت ظروف الجائحة توقف المزرعة عن تربية الجمبري بشكل مؤقت، نظرا لارتباط العملية بجلب الصغار والغذاء بالاستيراد، كما تمّ تأجيل افتتاح مصنع الأعلاف، الذي كان من المقرر دخوله الخدمة، السنة الماضية.
ومع ذلك يعلّق مسؤولو القطاع آمالا كبيرة على إعادة بعث النشاط من جديد سنة 2021، خاصة بدخول مصنع الأعلاف للجمبري والأسماك الخدمة، وهو مشروع يندرج أيضا في إطار التعاون الجزائري الكوري، ومن شأنه إعطاء دفعة قوية للاستثمار في ميدان تربية الجمبري ومواصلة الإنتاج الإرشادي، حتى يكون مرجعية بحث بالنسبة للمستثمرين.
كما تجدر الإشارة، إلى أنّه تم استلام التجهيزات والعتاد الخاص به، في انتظار فتح الحدود من أجل تمكين التقنيين الكوريين من التنقل خلال الفترة القادمة، من أجل تركيب هذا العتاد، حسبما ذكره المدير المركزي لتنمية وتربية المائيات بوزارة الصيد البحري، رشيد عنان.
ويبقى الدفع الحقيقي لهذا النشاط مرتبطا باستحداث استثمار خاص، وإنجاز مشاريع خاصة وتحقيق انتشار في عمليات التربية، خاصة وأنّ الاستثمار في هذا المجال يعرف تكلفة إنتاج غير مرتفعة، كما أنّ مصنع الغذاء سيساهم في التقليل من التكاليف على عاتق المستثمر في هذا المجال، وستعرف العملية قفزة نوعية حسب المدير الجهوي للقطاع، نذير قريشي، الذي أوضح في هذا الإطار أنّ المديرية المحلية للصيد البحري تسجّل طلبات للاستثمار في هذا النشاط، كما أن هناك ملفات مودعة للاستثمار في تربية الجمبري تنتظر الدراسة من أجل تجسيدها في الميدان.
تذليل صعوبات الاستثمار أكبر تحدّ
يطرح واقع الاستثمار، في هذا الميدان، العديد من المشاكل التي هي في حاجة لحلول من أجل الدفع بوتيرة هذه المشاريع محليا، حسبما يرى بعض المهنيّين، تتوضح أبرزها في عدم توفر القطع الأرضية المخصّصة للراغبين في الاستثمار بهذا المجال.
كما يشير كثيرون إلى أنّ انتقال هذا المجال من التجريب نحو الاستثمار المنتج في هذه المرحلة أضحى ضروريا، إلا أنّ هذا العائق يمثل أحد مسبّبات تعطّل إنجاز المشاريع الاستثمارية في هذا القطاع، كما يقول رئيس جمعية النحل وتربية المائيات شاكر ربو مدقن، حيث وفي مقابل الإقبال على الطلب للاستثمار في هذا المجال، فإنّ العديد من الملفات المودعة للطلب على الاستثمار لم تر النور بعد.
وفي هذا السياق، ذكر أنّ جمعيته سجّلت طلب 10 من حاملي المشاريع من أعضاء جمعية النحل وتربية المائيات للاستثمار، ملفاتهم مودعة منذ 2018، لكن لم يتمكّنوا لحد الآن من تجسيد مشاريعهم، نظرا لعدة أسباب، من بينها مركزية دراسة الملفات، بالإضافة إلى عدم توفّر القطع الأرضية المخصصة لهذا النشاط.
وعلى هذا الأساس، أكّد المتحدّث أن مطالب المهنيين، اليوم، ترتكز على ضرورة تخصيص منطقة نشاط لتربية المائيات وتسهيل منح الأراضي، خاصة أنّ المساحة المطلوبة لا تتجاوز 2 هكتار كحد أقصى، وتمكين الراغبين في الاستثمار من الاستفادة من صناديق الدعم من أجل تشجيع المشاريع المصغرة واستحداث تعاونية لتربية المائيات، خاصة وأنّ الاستثمارات الكبرى تعاني بعض المشاكل، بالإضافة إلى معالجة الملفات والطلبات المودعة على المستوى المحلي.
وبالعودة إلى ما ذكره مدير القطاع، نذير قريشي، في هذا الموضوع، فإنّ الملفات المودعة على مستوى المديرية والمحطات التابعة للمديرية أو اللجنة المحلية التي يترأّسها والي كل ولاية وأعضاء اللجنة المكونة من قطاعات ذات الصلة بالصيد البحري، تدرس الملفات لمنح الراغبين في الاستثمار في أغلب الشعب الموجودة في تربية الأسماك، منها سمك البلطي النيلي أو سمك القط أو غيرهما، كما أن هناك مشاريع في شعب أخرى كتربية الطحالب أو تربية الجمبري، ومن بين الملفات المودعة في ورقلة حوالي 18 ملفا مودعا للراغبين في الاستثمار، 163 ملف في الوادي، وفي بسكرة ما يفوق 80 ملفا.
وأشار ذات المسؤول إلى أنّه، خلال السنتين السابقتين، تمّ تسليم حوالي 28 قرارا لإنجاز مشاريع في بسكرة، وبحكم حداثة العملية واجه المستثمرون بعض المشاكل في إنجاز مشاريعهم واستخراج رخص البناء، رغم مرافقة محطات الولايات للمستثمرين، بالإضافة إلى بطء استخراج رخص حفر الآباء، والتي ترجع إلى طبيعة المشاريع والقطع الأرضية، ولكن العملية في طور الإنجاز ويجري مرافقة المستثمرين لإيجاد حلول لها.
وأكّد أنّ العوائق في الاستثمار تعود لحداثة القطاع في حدّ ذاته، مضيفا أنّ الجهات ذات الصلة تسعى من أجل حلحلتها وتذليل الصّعوبات أمام كافة المستثمرين.
ومن جهته، أشار المدير المركزي لتنمية وتربية المائيات بوزارة الصيد البحري، رشيد عنان، فيما يخص مشكل أراضي الامتياز، إلى عقد اجتماعات في الإدارة المركزية مع وزارة الداخلية لمناقشة كل الملفات العالقة، وتم تقديم اقتراحات بإعادة بعث دراستها، وإيجاد حلول للمشاكل المطروحة قريبا، كما أكّد أنّه قد تمّ تسجيل عملية لتحديد مناطق النشاطات من أجل الاستزراع السمكي، ويجري العمل على تسريع وتيرة الإنجاز بالتنسيق مع وزارة الداخلية بهدف توزيعها على الشباب.
ضبط السّـوق
يمثل التّسويق بالإضافة إلى ما يطرحه المهنيون في القطاع على غرار وفرة الغذاء السمكي وبعض معوقات الاستثمار انشغالا آخر، وهو ملف في حاجة إلى ضبطه ودراسته بشكل معمق، من أجل تذليل كل الصعوبات التي تواجه العملية التسويقية، سواء بالنسبة للمنتجات الصيدية أو لمنتجات تربية المائيات.
ويقول مدير الصيد البحري والموارد الصيدية، أنّ كل هذه الانشغالات كانت تطرح في لقاءات تقييمية مع الوزارة، ومن خلالها، كانت هناك اتصالات مع قطاعات أخرى، نتجت عنها بعض الحلول، منها لقاء عقد بولاية ورقلة من أجل تشكيل لجان محلية ولائية على المستوى الوطني من كل القطاعات ذات الصلة بالصيد البحري، بداية من البحث العلمي والتكوين المهني والتجارة أساسا في هذا الموضوع لأنّ إنشاء اللّجنة كان بهدف دراسة مشكل تسويق المنتجات الصيدية وهو مشكل وطني.
كما ينبغي أن تكون هناك ورشات عمل مع القطاعات والمهنيين وبائعي الأسماك من أجل طرح الانشغالات وإيجاد الحلول لها، والخروج بتوصيات لرسم خارطة طريق القطاع في الخماسي 2020-2025، ومن خلالها تشكيل لجان محلية قطاعية على المستوى المحلي، تضم كل الفاعلين في القطاع على مستوى كل ولاية. وفي هذا الإطار، تمّ تنصيب اللّجنة في ولاية ورقلة خلال جلسة عمل عقدت بحضور كل الشّركاء في القطاع، لضبط سوق المنتجات الصيدية، وكان اللقاء مثمرا جدا وهو مستمر لحل كل مشاكل التسويق وضبط تسويق المنتجات الصيدية.
وفي نفس السياق، ذكر فوزي هبيتة، مدير الغرفة المشتركة ما بين الولايات للصيد البحري وتربية المائيات، أنّ من بين الاقتراحات المقدمة في هذا اللقاء، التقليص من عدد الوسطاء حتى يصل المنتج بأسعار أقل للمستهلك، خلق مشاريع مصغّرة في تربية المائيات لسدّ النقص في المنتجات البحرية في وقت الراحة البيولوجية، وفي أوقات الظروف المناخية غير ملائمة.
كما حثّ الأعوان على تعزيز الرقابة على أسعار بيع المنتجات السمكية، وضرورة توفير سوق مغطّاة خاصة بتسويق المنتجات البحرية وأسماك المياه العذبة محليا، وكذا الحرص على نشر ثقافة استهلاك منتجات تربية المائيات لتعزيز إقبال المواطن على هذا النوع من المنتجات، بالإضافة إلى التوعية والتحسيس بأهمية الاستثمار عبر وسائل الدعم المتاحة.