متى يأتي الرّبيع؟

فضيلة دفوس
26 جانفي 2016

تعجّبت لأحدهم وهو يكتب من وراء مكتبه الآمن والدّافئ عن حصيلة خمس سنوات من عمر ما يسمّى بـ “الرّبيع العربي”، ويقول بأنّ قوافل القتلى والجرحى والمروّعين وأمواج اللاجئين الذين تكدّست بهم أوروبا وملايير الخسائر المادية، هي نتيجة منطقية وحتمية لمن ينشد التغيير، واستشهد في كلامه المثير للاشمئزاز بكل الأقوال المأثورة وقوافي الشّعر التي تعتبر تضحية الشّعوب العربية أمرا بسيطا لا يجب أن يذكر أمام الهدف المنشود  وهو تحقيق التغيير.
في الواقع لست أدري من وراء أيّ نظّارة تمكّن هذا الكاتب الذي حوّل مثل كثيرين أمثاله قلمه إلى سيف يدعم “داعش” الارهابي ومن يقف وراءه، أن يرى في الحصاد المرّ “للربيع المريع” وفي انهيار الدّماء التي تغرق بلدان التغيير، شيئا طبيعيا لا يثير أيّ مشاعر أو قلق، فالذي أنتجه الحراك العربي بعد خمس سنوات هو الكارثة بعينها، والتقييم الحقيقي والمحايد لحصيلته يجب أن يمرّ عبر ميزان الربح والخسارة، فالأرقام  والاحصائيات وحدها تقول الحقيقة ووحدها ترفع هذه الكفة أو تلك.
لقد تجاوزت الكلفة المالية لما يسمّى بـ “ثورات الربيع العربي” الـ 800 مليار دولار، وهو رقم رهيب كما نرى، أما الخسائر البشرية ففاقت مئات الآلاف من القتلى والجرحى وملايين النازحين  واللاجئين واليتامى والأرامل والثكلى، ولعلّ الخسارة الأكبر هي ضياع الأمن الذي أصبح رهينة بين مخالب وحش كاسر اسمه “داعش”.
إنّ التّقليل من خطر ما أنتجه “الربيع المريع” كما يفعل بعض المعتوهين هو التضليل الماكر بعينه،فما أسفر عنه الحراك الذي هزّ العديد من البلدان العربية في شتاء 2011 من خسائر بشرية ومادية، يستدعي الوقوف عنده مليا للبحث عن  مخارج سلمية لإنهاء هذا الوضع الكارثي.
في العادة الثّورات تسعى إلى إقامة أنظمة تستجيب لمطالب الشعوب وتخفّف عنها وطأة العيش، لكن “الثّورات العربية” أكلت نفسها  وأدّت إلى نتائج عكسية ضيّعت من خلالها ما كان قائما من مكاسب ومن أمن واستقرار، الأمر الذي جعل الشعوب العربية تشذ عن القاعدة وتورّط نفسها في حروب وأزمات لا  تظهر للأسف الشديد  ملامح نهايتها  في الأفق القريب.
وهذا الذي يجري في بلدان ما يسمى بالربيع، كان أمرا محتوما بالنسبة لكل ثورة لا يقودها وعي حقيقي ونخبة مدركة لمسؤوليتها التاريخية، ومعبرة عن طموحات الشعوب وتطلعاتها.
فـ “الثورات العربية” لم تملك ـ كما قال أحدهم ـ من مواصفات الثورة سوى الهيجان الشعبي والتدفق الجماهيري في الشوارع والميادين العامة، أما ما يتعلق بالتخطيط الإستراتيجي لما بعد إسقاط النظام والتفكير الجدي في النظام البديل ووضع خطة واضحة لبناء المستقبل، فقد كان الرقم الغائب.
لقد كان المطلب الرئيسي للانتفاضات الشعبية هو إسقاط النظام دون إدراك خطورة الفراغ السياسي والدستوري الذي يتركه إسقاط النظام، وها هو واقع الدول التي انهارت فيها الأنظمة يعكس حجم المخاطر التي تولّدت عن الفراغ والفوضى وغياب الأمن.
بميزان الرّبح والخسارة  “الرّبيع العربي” لم يحمل سوى الخسائر والكوارث، وقد ضلّلت شعاراته المزيّفة الشّعوب العربية وقادتها إلى الجحيم، أماّ الانفراج فلا يبدو قريبا.

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024