كانت منطقة القبائل قبل انضمامها إلى الثورة متبنية أفكار مصالي الحاج ومخلصة له، ولقد طرحت مسألة عدم مشاركة منطقة القبائل في اجتماع 22، حيث تفطّن المجتمعون إلى أن كل جهات الوطن ممثلة ما عدا منطقة القبائل، حسب ما جاء في كتاب محمد الصالح الصديق بعنوان «الطريق إلى نوفمبر كما يرويها المجاهدون».
أضاف ذات المصدر، أنه بعد اجتماع 22 تقرّر إرسال ديدوش مراد للتباحث مع كريم بلقاسم بشأن الانضمام إلى مجموعة الثوريين، ولكنه لم يوفّق في مهمته ليتم إرسال مصطفى بن بولعيد، الذي استطاع أن يقنع كريم بلقاسم وجماعته بحضور اجتماعات قيادة الثورة، وارتاح كريم بلقاسم لهذه الفكرة
وشارك في اجتماع قادة 22 برفقة أعمر أوعمران، وقد أكد محمد بوضياف أنه كان يدرك أهمية انضمام منطقة القبائل إلى مجموعة 22.
بعد عدة لقاءات واجتماعات بين الأعضاء الذين قاموا بالتحضير للثورة، عين كريم بلقاسم قائدا لمنطقة القبائل وأعمر أوعمران نائبا له، وأصبحت بذلك المنطقة ركنا هاما حيث حملت على عاتقها مهمة الإعداد للثورة وتفجيرها، وفي هذا الوقت شرعت في التهيئة البشرية والمادية لإعلان الثورة التحريرية الكبرى،
وأصدرت تعليمات لمسؤولي النواحي من أجل الإسراع في تنظيم الأفواج وتدريبها على استعمال الأسلحة، ووضع المتفجرات ونصب الكمائن وكذا فنون حرب العصابات، وقد اتخذ كريم بلقاسم مركز قيادته بأعالي «إزري عيسى».
وأشار محمد الصالح الصديق نقلا عن شهادة علي زعموم، إلى أنه بعد الانضمام الرسمي لمناضلي منطقة القبائل إلى الثورة، بدأ في وضع منظمة خاصة على نمط المنظمة السرية تضم أحسن المناضلين الشباب يكونون في صحة جيدة، قادرين على تحمّل المسؤوليات، اختيروا ليكونوا الخلايا القاعدية للمنظمة، والتي كان لها الدور الفعال في العمليات الأولى في الفاتح نوفمبر، وقد كانت هذه الخلايا مكونة من ثلاث أشخاص، كانت السمة التي تميزت بها المنظمة، فمثلا شخصين من عائلة واحدة ينتميان إلى خليتين مختلفتين الواحد منهما لا يعرف بأن الآخر منخرط في نفس التنظيم، وقد نفّذ حكم الإعدام في كل شخص أقدم على إفشاء السر.
كانت الاجتماعات السرية تجرى بالقرب من ذراع بن خدة، بحضور مسؤولي المنطقة الثالثة وحضرها رابح بيطاط وقاسي عبد الله مختار اللذان كانا يلقنان صناعة القنابل، كما كان الكيميائي عبد الكريم تيجاني يعلم المناضلين كيفية صناعة النتروغليسين، وتم تزويدهم بكل المعدات الكيميائية.
ويذكر المرحوم علي زعموم أن كريم بلقاسم كلفه في نهاية شهر أكتوبر 1954 بعد مده وثيقتين يسحبها بواسطة جهاز الرونيو بآلاف النسخ بالمكان المسمى إغيل إمولا، علم علي زعموم أن الوثيقتين بها نص بيان أول نوفمبر، هذا البيان الذي تم تحريره من طرف مؤسسي اللجنة الثورية للوحدة و العمل.
وقد كلّفت منطقة القبائل بمهمة السحب نظرا لتوفرها الضمانات، من خلال تنظيم المنطقة وانضباط رجالها وأقدميتهم في التنظيم، وقد استدعى علي زعموم إلى قرية إغيل بولقاضي وحرص على حفظ السر بتعليمة محددة «أنّ لا شيء يتسرب قبل اليوم الحاسم»، وأعطي الأمر لزعموم بتصفية كل شخص يقوم بإفشاء مضمون الوثيقتين.
ويؤكّد علي زعموم في شهادته، أنه استقبل في تيزي وزو الصحفي العيشاوي محمد المبعوث من طرف اللجنة لغرض طبع الوثيقة، وقد رافقه ليلا إلى قريته وفي منزل بن رمضاني عمر أطلعه على النص المراد كتابته بالآلة الراقنة وكان محتوى الورقتين نداء للشعب الجزائري وإلى مناضلي القضية الوطنية اندلاع حقيقي للثورة، الذي سينطلق في الفاتح نوفمبر 1954.
ويضيف: «تحت ضوء المصباح التقليدي قام العيشاوي برقن النص، ثم ذهبنا إلى ايدير رابح كان مناضلا في صفوفنا لسحب النداء كون منزله مزوّد بالطاقة الكهربائية، كان من الصعب تشغيل الآلة دون إحداث ضجيج تجنبا لجلب الشكوك إلينا»، وقال أيضا أنّ مستودع ايدير كان يقع تحت المتجر الذي كانوا يسهرون فيه دوما.
ولتغطية ضجيج الآلة، طلب من بعض المناضلين السهر في المتجر، مع إحداث الضجيج في لعبة الطمبولا مع مراقبة دوريات الحرس البلدي، بينما طيلة الليل كان يسحب نداء الفاتح نوفمبر الذي يعتبر شهادة ميلاد جبهة التحرير الوطني، أما الأسلحة فكانت بسيطة تتمثل في بنادق صيد عتيقة بعضها مشدود بأسلاك، وبعضها أسلحة آلية كان يأتي جلها من الأوراس التي تتوفر على كمية أكبر من النواحي الأخرى.
بالإضافة إلى بعض البنادق الحربية القديمة من نوع موسكوتون، ومخزون المنظمة الخاصة وتمّ شراء عدة رشاشات من السوق السوداء تيمزريت بضواحي سيدي علي بوناب، وسوق الإثنين
وبأربعاء بني وسيف وغيرها، كما طلب من كل مناضل أن يبادر بشراء سلاحه من ماله الخاص، وقد كان سعر رشاشات أستان يساوي 15000 فرنك قديم وثمن موسكوتون (أرباعي) 17000 فرنك قديم، حسب ما جاء في كتاب آخر بعنوان «هجومات الفاتح نوفمبر 1954 بالمنطقة الثالثة القبائل».
100 قطعة سلاح سلّمتها الأوراس للولاية الثانية
وقد كان هناك 100 قطعة من السلاح في الأوراس تم تسليمها إلى المنطقة الثالثة، أما المشكل العويص فيتمثل في عدم توفر الإمكانيات البشرية، إذ أن كثير من مناضليها كان مع جماعة الأحول حسين أو مع مجموعة مصالي، وبعد دراسة المشكل على مستوى القيادة اتّضح أن بعد المسافة واختلاف اللهجة، وعدم معرفة طبيعة المنطقة يجعل الحل في تكفل المنطقة الثالثة بإرسال 200 رجل إلى الجزائر وضواحيها للقيام بالعمليات الأولى لإندلاع الثورة.
وأوضح سعيد بورنان في كتابه المعنون: «شخصيات بارزة في كفاح الجزائر 1830 - 1962، أبرز قادة ثورة نوفمبر 1954»، الصادر عام 2004، أنه في ليلة الفاتح نوفمبر 1954 شنّ مجاهدو جيش التحرير الوطني وعددهم لا يتجاوز 3 آلاف مجاهد، حوالي 40 هجوما عسكريا في آن واحد وعبر كامل التراب الوطني، وكانت أقواها تلك التي عرفتها منطقة الأوراس والشمال القسنطيني ومنطقة القبائل، حيث شهدت هذه الأخيرة عدة عمليات عسكرية في مختلف أنحائها سواء في ليلة أول نوفمبر أو بعدها، وتمثلت في حرق مخازن المعمرين وقطع الخطوط الهاتفية، ومهاجمة مراكز الدرك.
وكان عدد المجاهدين بها يصل إلى 450 مجاهد، وهو عدد معتبر مقارنة ببعض المناطق الأخرى في الوطن، وذلك لأن نواة العمل المسلح كانت موجودة في المنطقة منذ عام 1947، حيث شهدت ظهور جماعات من المتمردين على السلطة الإستعمارية، سواء بقيادة كريم بلقاسم وعمر أو عمران، وهذا ما سهّل جمع الرجال الذين لم يكونوا في حاجة سوى للسلاح، وقد تركزت العمليات بهذه المنطقة في عدة نواحي.
ففي العزازقة هاجم الثوار مركز الدرك، وأشعلوا النار في مستودع البهش (قشو، الفرنان) التابع لإدارة مصلحة الغابات والمياه، فزادت خسائره على 50 مليون فرنك، وقطعوا أعمدة وأسلاك الهاتف لبريد عزازقة، وعزلوا المدينة عن غيرها وأتلفوا الأسلاك وأعمدة في كل من بوغي، دلس، برج منايل، بواركة، آبو ومعسكر المارشال.
وفي ذراع الميزان تمّ إطلاق النار على الحرس البلدي، الذي قتل بعد أن تمكّن هو أيضا من إصابة أحد أفراد المجموعة التي كانت مكلّفة بمهاجمة مركز الدرك الوطني، بتادمايت وتيزي غنيف، فهاجموا عدة مراكز للفرنسيين وألحقوا بها أضرار مادية جسيمة، كما قتلوا اثنين من حراس الحقول أحدهما بذراع الميزان والثاني بتيزي نثلاثة، وقطعوا الأسلاك الهاتفية وأعمدة النور فانقطعت الاتصالات الهاتفية بين عدة مراكز بالعاصمة وتيزي وزو.
وفي برج منايل قام الثوار بحرق غابة التبغ وحرق مزارع الكولون، ونفس العمليات نفذت في ناحية الناصرية بحرق مزارع المعمرين وقطع أعمدة التيار الكهربائي والهاتف، كما قام المناضلون بتخريب مزرعة رئيس بلدية سيدي داود وحرق حافلة المعمر «ميزار» في الطريق الرابط بين دلس وتيزي وزو عبر مدينة بغلية، ولقد أعدّت هذه العمليات والهجومات بإحكام ودقة متناهية على المستوى المحلي في الأيام الأخيرة من قبل قيادة الولاية الثالثة.
رد فعل الإدارة الاستعمارية على العمليات العسكرية للفاتح نوفمبر
لقد كانت الصّدمة عنيفة جدا على السلطات الاستعمارية، التي لم تكن تتصوّر ما حصل بسبب قسوة البطش والظلم الذي كانت تسلطه على الشعب طوال فترة الاحتلال، واستغربت كيف يثور عليها شعب مارست إذلاله قرنا وربع قرن، وبذلت المستحيلات حتى تطمس تاريخه وتنسيه قوميته وعادته وأمجاده.
وقد أذاعت الحكومة الفرنسية حينذاك بلاغا جاء فيه، أنه لا توجد أي علاقة بين الحوادث التي تجري في الأوراس والتي ظهرت في بلاد القبائل، وبعد أيام قليلة من هذا التصريح لم يتردّد أحد كبار المسؤولين الفرنسيين بالقول أنّه «ليس من القريب أن يحدث ما حدث ببلاد القبائل، فكل الناس يعترفون قبل اليوم بوجود مجرمين وقطاع الطرق في هذه النواحي».
وهكذا اتّخذت السلطات الفرنسية إجراءات تعسفية من حملات تفتيشية واعتقالات فردية وجماعية وأعمال قمعية، ففي إغيل ايمولا التي كانت معقل الثوار قامت بضرب حصار على القرية، وأجبرت سكانها على تمويل جنود جيشها المتكون من أفارقة الذين أشيعوا في القرية فسادا وانتهاكا للأعراض وتنكيلا بالسكان، كما حاصرت قرى بغلية وسيدي داود وتيزي غنيف، وبلدة تيغزيرت في ولاية تيزي وزو، بالإضافة إلى ذلك قامت قوات العدو بهجوم على قرية آيت عمر.
وفي منطقة سيد علي بوناب، قامت بحشد الرجال إلى ساحة القرية وتفنّنوا في تعذيبهم جسديا ونفسيا، وفي نهاية الحصار قادوهم إلى واد سيبا وأعدموهم، كما قام العدو بتطويق الأسواق الأسبوعية كسوق الخميس بيسر وسوق بوغني، وتفتيش مواطنين والقبض على المشبوه فيهم.