شكّلت منطقة الحوران بإقليم الحضنة، خلال الثورة الجزائرية، معبرا استراتيجيا بين الولايات التاريخية الثالثة والرابعة والسادسة (الحمادية، القصور، الدريعات وطريق سيدي عيسى، بني يلمان، ملوزة، وطريق بن دواود، حرازة، المنصورة وطريق المسيلة)، حيث كانت تتواجد بها ثكنة عسكرية لجيش الاحتلال الفرنسي منتصبة على ربوة ضمّت أيضا دارا لحراسة الغابات، من خلالها يتم مراقبة جبال المنصورة وونوغة وتشرف على الهضاب العليا والجبال المحيطة بها، وبالتالي على حركة جيش التحرير الوطني في تلك الناحية.
شهدت المنطقة عبور عدد كبير من قوافل المجاهدين وقيادة الثورة؛ سواء في إطار جلب الأسلحة أو القيام بمهام عسكرية وسياسية مختلفة، فقد استضافت العقداء الذين مرّوا بأراضيها العقيد سي الحواس بالناحية سنة 1956م، العقيد الحاج لخضر، العقيد أحمد بن شريف، القائد عمر إدريس، كما كانت محطة لاجتماع هامّ عقده في 1957م العقيدين عميروش وسي الحواس، بمنطقة “بوسلمون” بقرية الدريعات وبالتحديد بمسكن رئيس اللجنة الخماسية بوساق المكي، وقد كان هذا الاجتماع مغلقا، ضمّ العقيدين فقط، ودام أكثر من ثلاثة أيام.
لقد استغلّ مركز الحوران، من قبل حراس الغابة وشيّدوا فيه مساكن تأويهم، ولما اطّلعت فرنسا على المكان وأهمّيته الاستراتيجية عسكريا، اتخذته مركزا يطلّ على إقليم الحضنة والهضاب، حينها قامت بتعديلات هامّة على المركز تخدم مصالح عساكرها، دون أن تلغي بنايات حراس الغابة، الذين أصبحوا فيما بعد جزء لا يتجزأ من عسكر العدوّ، يقدّمون المساعدة في الميدان جغرافيا وعسكريا واجتماعيا.
وبذلك غدا المركز يتشكّل من:
^ وحدة من سلاح الفرسان تحت قيادة ضابط برتبة ملازم ثانٍ يدعى دي بواز.
^ وحدة من أربع بنايات تقوم على حراسة كلّ واحدة منها دبّابتان مسلّحتان بمدفع عيار 75 وآخر عيار7/12 ومدفع آخر نوع 30 أمريكي الصنع، وأربعة مدافع هاون عيار82 وعيار 60، بالإضافة إلى مدافع رشاش فرنسي الصنع من نوع 29/24 وآخر من نوع فيمباز أمريكي الصنع.
^ قاعتان تضمّان مطعما ومطبخا وتصل بهما ثلاثة أبواب أحدها يصل بالساحة الخارجية، وثانيهما يؤدّي إلى القاعة وثالثهما يتجه نحو ممرّ أرضي يطلّ على نقاط الحراسة وأبراج المراقبة.
1-خلفيـــــــــــــات الإعـــــــــــــــــداد لاقتحـــــــــــــــــــــــــام مركـــــز الحـــــــوران مطلـــــــع نوفمـــــــــبر 1957:
إنّ السياق العام لعملية الاقتحام لمركز الحوران بالولاية الثالثة لافتكاك السلاح من أيدي العدوّ، لم تكن بدعا على الولاية الثالثة فهذه مفاضلة لا مجال لها من الدراسات التاريخية الجادّة، فالعمليات الشبيهة كانت تحدث في باقي الولايات التاريخية وقامت بها وحدات جيش التحرير الوطني بامتياز، لكنّ عملية الحواران جاءت ضمن سياق زمني ومكاني أعطى لها زخما ودويّا في تطوّر مسار الثورة إن على المستوى العسكري أو السياسي.
فالعملية تزامنت عسكريا مع فشل عملية العصفور الأزرق، التي خطّط لها جيش الاحتلال الفرنسي بأراضي الولاية الثالثة زمن كانت منطقة على عهد كريم بلقاسم وظلّت من نوفمبر1956 إلى نهاية ديسمبر1957، ومع خروج قيادة الثورة إلى الخارج، أيّ لجنة التنسيق والتنفيذ في مارس 1957، إثر اعتقال العربي بن مهيدي، واغتياله مع انقطاع الاتصال ونفاد الذخيرة والسلاح، الأمر الذي فرض على قادة الداخل العودة إلى استراتيجية التسليح زمن تفجير الكفاح المسلّح في غرّة الفاتح من نوفمبر 1954 أيّ افتكاكه من العدوّ، وهو الأمر الذي ظلّ يخطّط له قادة الولاية الثالثة، تخطيط تضاعف بعد استحالة عملية جلب السّلاح من الخارج بفعل التطويق الحدودي، بدء من سبتمبر 1957 بعد الانتهاء من بناء خط موريس، فقوافل السّلاح كانت كثيرا ما ينتهي مصيرها الاستشهاد ولا يعود منها إلا الثلث”.
لقد استغرقت عملية التحضير والتخطيط للهجوم على المركز سنة كاملة، فالعملية بدأ التخطيط لها على مستوى القاعدة أيّ الناحية ثمّ تمّت استشارة قيادة المنطقة، وبعد اتصالات سرية مع المناضل سي محمد زرنوح العامل بصفوف الجيش الفرنسي برتبة رقيب أول مسؤول الخدمات العامة في المركز والسعيد زموري، مسؤول الاتصال والأخبار، في بيت البهلولي وزوجته فطيمة المدعوة “المْعَلْمَة”، هاته الأخيرة كانت تمتلك محلا تجاريا بمنطقة حمام الضلعة.
وكان محمد زرنوخ، عادة ما يأتي للتبضّع هناك، الأمر سهّل مهمّة “المْعَلْمَة” حيث أقنعته بضرورة إمداد وحدات جيش التحرير الوطني بالذخيرة والسلاح من المركز الذي كان يعمل به، وقد استجاب محمد زرنوخ وأرسل بعض الشحنات الصغيرة سرّيا، حتى أنّه غدا اسمه يهتمّ به قادة الثورة أمثال عبد القادر البريكي.
والحالة هاته بدأ اهتمام قادة الثورة بعملية جلب السلاح وافتكاكه من أيدي العدوّ تؤرّق كاهلهم، لأجل ذلك وبداية من شهر نوفمبر 1957، سرعان ما تحرّك خليفة السعيد زموري، مسؤول الاتصالات والأخبار بالناحية السيد عبد الحفيظ عدوان، الذي كان ينسّق مع قائد الناحية رابح بلجرو، وبالتشاور دائما مع قائد الولاية الثالثة العقيد عميروش، الذي كان يخطّط لعملية الاقتحام منذ نوفمبر 1957، لأجل ذلك نظما لقاء مع محمد زرنوح، حيث طلب منه إعداد مخطّط للمركز يتضمّن نظام الحراسة على الخصوص أبراج المراقبة، وساعات المناوبة والعناصر الأهلية، التي تكون في الأماكن الحسّاسة وعدد الأبواب، فضلا عن كمية الأسلحة ونوعها والذخيرة الموجودة وعدد جنود جيش الاحتلال بالمركز، نظام الاتصالات في المركز وإمكانية قطعها.
2-العقيد عميروش يشــــرف علـى عملية الإعداد لاقتحــــــــام المركــــــــز نوفمـــــــــــبر/ ديسمـــــبر1957
ومع نهاية شهر نوفمبر 1957، تلقّى عبد الحفيظ عدوان، تقريرا مفصّلا سلّمه محمد زرنوح لمسؤول الاتصال والأخبار وعضو الناحية الأولى عيسى بلاندي، الذي بدوره سلّمه لقائد الناحية رابح بلجرو، (الثايري) والذي عقد اجتماعا مع أعضاء الناحية وهم: النعيمي بن عوف مسؤولا عسكريا،، عيسى بلاندي مسؤول الاتصال والأخبار وبوبكر معمري مسؤولا سياسيا، درس المسؤولون المخطّط من كلّ الجوانب لمدّة أسبوع، لكنّهم لم يتمكّنوا من البتّ في القضية والحصول على أمر بالهجوم، وفي آواخر 1957م جرى اجتماع لمسؤول المنطقة ورؤساء النواحي بحضور العقيد عميروش، حول فكرة اقتحام مركز الحوران.
وفي أثناء هذا الاجتماع وبحضور العقيد عميروش، تقرّر تنفيذ مخطّط الهجوم على المركز، حينها بدأ توزيع المهام والمسؤوليات واتفقوا على الخطّة الأخيرة، حيث طلب رابح الثايري قائد الناحية من العقيد عميروش تزويد الناحية بفيلق يتكوّن من 03 كتائب، وذلك لحماية ظهور المقتحمين فكانت المهام كالتالي :
^ كتيبة موح أرزقي لحماية ظهور المقتحمين ونصب الكمائن على طريق سيدي عيسى وبني يلمان حول حمام الضلعة.
^ الكتيبة الثانية لنصب الكمائن بين بن داود والمهير وبين حرازة والمهير وبين برج بوعريريج والمنصورة والمهير.
^ الكتيبة الثالثة تتمركز في بني وقاق لتسهيل المرور على المقتحمين بعد نهاية الاقتحام.
^ لكنّ قيادة الناحية قرّرت أن تكون المهمة من اختصاص كتيبة الناحية فقط، حفاظا على السرية ونجاح العملية.
ومع مطلع شهر جانفي 1958م أمر العقيد عميروش، قائد الولاية الثالثة قائد المنطقة الثانية عبد الله القلعاوي المدعو أحمد مرزوق، بإرسال فيلق محمد أورابح إلى الناحية الأولى ليكون تحت تصرف قائد الناحية، وفي 02 فيفري من نفس السنة اجتمع قادة الناحية الأولى، حيث كلّف رابح الثايري قائد الناحية مسؤول المهمة، أيّ مسؤولية الهجوم لسعيد سعود المدعو لوتشكيس.
هذا الأخير حضّر ثلاثة أفواج من جنود الكتيبة المسلّحين بأسلحة أوتوماتيكية، وفي هذا الصدد يروي: “...فاخترت الجنود وعددهم 33 جنديا، فكان على رأس الفوج الأول النعيمي بن عوف، وكنت من أفراده، والفوج الثاني بقيادة بلقاسم شرفاوي، والفوج الثالث بقيادة محمد واعلي أوخالد”.
وعلى إثر ذلك حدّدت المهام وتوزيعها، حيث كلّف الفوج الأول باقتحام المطعم والمطبخ استغلال لفترة تناول وجبة العشاء، ذلك أنّ الحراس كانوا يتناولونها وكانت مناوبة الحراسة تحت إمرة زرنوح محمد الذي كان مكلّفا بإعطاء الإشارة لتنفيذ خطّة الاقتحام، أما الفوج الثاني فقد كلّف بالسيطرة على مواقع الأسلحة الثقيلة كالمدافع وأماكن الحراسة وأبراج المراقبة، على أساس التعليمات التي عندهم كلّف الفوج الثالث بمهمة احتلال مواقع الدبّابات، أما الفوج الثالث فقد كلّف بمهمة احتلال مواقع الدبّابات للحيولة دون استعمالها.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ عملية التحضير للهجوم لم تستثن أيّ مجال فقد اهتم المسؤولون بالجانب الصحّي وكلّفوا عبد الحميد مزاي، كمسؤول صحّي للمنطقة لتحضير الضمّادات والأدوية أو الإسعافات الأولية لوحدات جيش التحرير أثناء العملية.
03- كتيبة من 33 مجاهدا من وحدات جيش الـتحريـــــر الوطنـــــــــي تقتحـــــــــم المركـــــــز العسكري لجنــــود الاحتــــلال بالحـــــــوران فيفـــــــــــــري 1958:
تزامن الهجوم على المركز بتاريخ الرابع من شهر فيفري 1958، مع جوّ ممطر، وفي هذا الصدد يروي المجاهد صالح خير أنّه وعلى تخوم المركز كان هناك ثلاثمائة جندي بمنطقة اولاد سيدي اعمر، لم يكن يعلم أحدهم بمجريات العملية إلا قبل تنفيذها بساعات، حيث اجتمع بهم قائد المنطقة رابح الثايري وأعلمهم بطبيعة العملية ومخطّط الهجوم وطلب منهم تحضير الخيول والبغال مع الحبال.
كانت وحدات جيش التحرير الوطني تنظّم نفسها في شكل أفواج بمنطقة اولاد سيدي اعمر، حيث كانت غابة الحواران الكثيفة، فوج بقيادة لوتشكيس نزل مع الواد، وفوج نزل مع تاسا (حوش الحريقة)، وفوج من تاسا على عين السمارة إلى الجامع القريب من مركز الحوران.
تمّ تطويق المركز على مسافة 20 كلم من كلّ النواحي، وبحلول الساعة السابعة وهو الوقت المتفق عليه بين القيادة ومنفّذي الهجوم تلقّى المجاهدون الإشارة من طرف محمد زرنوح، الذي كان مجنّدا بالمركز، عن طريق إرسال ومضات لشعاع ضوئي بمصباح كهربائي محمول، كان الجندي بوني رفقة زميله في مهمّة الحراسة على مستوى الباب الشائك للمدخل الرئيسي للمركز، منذ أكثر من ساعة وهو يراقب مسالك القمم المشجرة حتى جاء الرقيب محمد زرنوح، وعند اقترابه من بوني قال له: “بإمكانك الذهاب إلى المرقد وسأخذ مكانك في الحراسة”، فوافق بوني على ذلك.
حينئذ انطلق الفوج الثالث بقيادة محمد واعلي أوخالد، ليحتلّ مكان تواجد الدبّابات والعربات والاستيلاء على المدافع الرشاشة عيار 7/12، ومدفع رشاش آخر أمريكي الصنع عياره30، والمدافع المحمولة على الدبّابات عيار75، أما الفوج الثاني قام بالاستيلاء على الأسلحة الثقيلة كمدافع الهاون عيار 28 و60 واحتلال أماكن الحراسة وأبراج المراقبة.
في حين، اتجه فوج إبراهيم بن عوف، نحو المبنى الرئيسي الذي يوجد به رواق طويل فاقتحم سعيد لوتشكيس، المطعم حيث كان الجنود يتناولون وجبة العشاء، وعندئذ أمرهم سعيد سعود: “برفع الأيدي لكنّهم لم يستجيبوا ولم يصدّقوا فأعاد لهم الأمر بنبرة عسكرية قويّة، ممّا زرع الهلع في قلوبهم لكنّ الجندي الموجود داخل قاعة الطهي أطلق عليه رصاصة أصابته في ذراعه ثمّ وجّه له سعيد سعود رشاشه فأرداه قتيلا” كما حاول البقية المقاومة لكن دون جدوى ثم استسلموا وتمّت عملية أسرهم رفقة قائدهم الملازم ديبوس بعد أن قيّدوا بالحبال،، وشرع باقي الأفواج في تحطيم الدبّابات وتدمير المركز وجمع الأسلحة وتشبيكها كي يسهل حملها.
ثمّ أعطى الأمربالإخلاء، حيث غادر المجاهدون في حدود الساعة الحادية عشر ليلا محمّلين بالغنائم على ظهور البغال ومعهم الأسرى مكبّلين بالحبال ورافقهم مسبّلو القسم الثالث باتجاه بني وقاق.
وبعد نهاية العملية دخل سكان المنطقة والمسبّلون المركز وأخذوا كلّ ما تركه المجاهدون من بقايا الطعام كالحبوب الجافة وبعض الألبسة وبعض الذخيرة التي لم ينتبه لها المجاهدون.
لم تقتصر نهاية العملية بالخروج من المركز بل كان على وحدات جيش التحرير الوطني إتمام المهمة وتجنّب لقاء العدوّ بأيّ طريقة لإيصالها إلى مركز القيادة، فجيش الاحتلال سوف يطلق صفّارات الإنذار ويبرق لقيادة العمليات كي تستعمل الطائرات والحوامات، الأمر الذي كان يفرض على منفّذي الهجوم مضاعفة الجهود لإيصال الشحنة إلى مركز القيادة أو مركز الولاية.
وفي هذ السياق، اتّجهت القافلة المحمّلة بالسّلاح نحو غابة بني وقاق، خلال منتصف الليل، لتصل مع طلوع الفجر بعد مسيرة مضنية استمرّت ستّ ساعات عبر سفوح جبل سيدي اعمر، ومنحدرات الحمراء وأولاد عباس وأحراش المهير حتى وصلوا إلى بني وقاق، أين وجدوا كتيبة ثانية في انتظارهم بقيادة الملازم البشير البلولي، هذه الأخيرة ستتحرّك في مساء اليوم الثاني للعملية لتنقل الشحنة باتجاه أكفادو.
2.2. نتائــــــج الهجـــــــوم علـــــــى مركـــــــــــز الحــــــــوران وتأثيراتــــــــــــــــــه علـــــــــــــــــى مســـــــــــــــــار الثــــــــــــــــــــورة:
كثير هي الروايات، التي أتثبت أنّ جيش الاحتلال الفرنسي لم تصله أخبار الهجوم على مركز الحوران إلا في منتصف اليوم الثاني للعملية، والشاهد في ذلك هو ردّة فعله التي بدأت ريثما أبرقت قيادة الجيش الاستعماري من المسيلة بالهجوم ( يروري سعيد سعود أنّ جندين فرنسيين تمكّنا من الاختباء داخل المركز في أنفاقه ولم يتفطّن لهم المجاهدون وتمكّنا من التسلّل بعد انتهاء العملية ولاذا بالفرار مشيا على الأقدام نحو المسيلة.
ولم يصلا إلا في حدود منتصف النهار لليوم الثاني خوفا من تعقّبهما من طرف المواطنين أو المسبّلين، بالنظر إلى أنّ العملية شارك فيها كلّ سكان المنطقة بشكل أو آخر، والحالة هاته يتبيّن لنا إعلان حالة الطوارئ، التي طالت المنطقة وضواحيها إلى سطيف البويرة، بجاية تيزي وزو، بدءا من الثانية زوالا من اليوم الثاني لتنفيذ عملية الهجوم على مركز الحوران.
في اليوم الثاني من تنفيذ الهجوم على مركز الحوران قام العدو بإعلان حالة الطوارئ في كلّ الجهات لاسيما سطيف وتيزي وزو والبليدة، فحشدت قوّات ضخمة في محاولة منها لملاحقة ومحاصرة المجاهدين الذين قاموا بالهجوم، حيث قام بعملية تمشيط واسعة النطاق في الناحية وراح يقنبل القرى والدواوير والمشاتي المجاورة لحمام الضلعة، وألقى القبض على المئات من السكان العزّل لاستنطاقهم حول مصير الأسرى والأسلحة بل وأعدم الكثير منهم، كما أحرق عدّة قرى وغابات كانت محيطة بالجهة.
وبدشرة اولاد سيدي اعمر، حلّ الرعب على سكان المنطقة فقد لاذوا بالفرار نحو تخوم الجبال خوفا من بطش جيش الاحتلال، فقد كانوا يعلمون أنّهم سيدفعون ثمن الهجوم على المركز وسيستنطقون بالتعذيب على مصير أسراهم، كيف لا وهو الذي نكّل بالأهالي في قلب المدن، التي كانت تقاوم وما معركة الجزائر كما سمّاه مؤرخو مدرسة التاريخ الاستعماري بدء من فيفري 1957 ببعيدة عن هذا الجرم، كانت الثلوج تغطّي المكان والبرد الشديد يضاعف من مأساتهم والخوف من تحليق الطائرات الاستطلاعية، التي كانت تحوم على علوّ غير بعيد إلى غاية القلالة والقصور والدريعات، ثم بلفون إلى جبل قنيطيس وجهة الخرابشة.
لقد وصلت وحدات الجيش الفرنسي إلى ضواحي الوادي البارد ومشدالة وواجهتها وحدات جيش التحرير الوطني كما كان مقررا قبل الهجوم لتحمي ظهر القوافل المحمّلة بشحنات الأسلحة، واجهتها في معركة ضارية بين كتيبة الملازم محند واعلي (سي خالد).
معركة ساهمت فيها تضاريس المنطقة سفوح وعرة مغطاة بأشجار كثيفة ومجاري مياه مغطاة بدورها بنبات كثيف وعدم وجود طرق، انتهت المعركة بسقوط ثلاثة شهداء من كتيبة محند واعلي، أمّا العدو فقد سقط الكثير من جنوده في الميدان ولم يتمكّن من اللّحاق بمنفّذي عملية الهجوم على مركز الحوران واسترجاع الأسلحة.
وعليه فلقد شكّلت عملية الهجوم على مركز الحوران في فيفري 1958، ضربة موجعة تلقّتها إدارة الاحتلال الفرنسي بالجزائر ليس على الصعيد العسكري فحسب بل حتى السياسي، فعلى المستوى العسكري أثبتت جاهزية وحدات جيش التحرير الوطني قوّتها رغم محاولات الاختراق، التي طالت الولاية الثالثة منذ عملية العصفور الأزرق (خريف 1956 إلى نوفمبر1957) والتي باءت بالفشل، ثم تداعيات ما جرى خلال معركة الجزائر على أراضي الولاية الثالثة –وإن كان هذا التأثير لا تشعر به قيادة الثورة إلا في النصف الثاني من سنة 1958.
علاوة على ذلك، فالعملية قدّمت الشواهد لجيش الاحتلال أنّ وحدات جيش التحرير قادرة على أن تفتكّ السّلاح من أيدي الجنود الفرنسيين وهي ليست ملزمة للانتظار عدّة شهور قوافل السّلاح، كي تعبر الخط المكهرب لجلب السلاح عبر الحدود التونسية، كما أنّ حجم الغنائم التي غنمتها وحدات جيش التحرير الوطني من مختلف الأسلحة، الذخيرة والعتاد كانت في العادة تجعل قيادة الداخل تنتظر شهورا عدّة لعودة قوافل السّلاح بالإمداد من الخارج.
فضلا عن تخريب وتدمير معدّات عسكرية حرق 07 دبّابات وعربتين مجنزرتين وسيارة جيب وشاحنة، مدفعان هاون عيار82، ومدفع هاون عيار60، ومجموعة مدافع من نوع7/12، فقد غنم جيش التحرير الوطني من العملية 07 قطع رشاشة ثقيلة نفس النوع 12/7، و07 مدافع رشاشة أمريكية الصنع من نوع30، 1 مدفع رشّاش من نوع فينمبار أمريكي الصنع، 1 مدفع رشاش فرنسي الصنع نوع 24/29، أجهزة اتصال سلكية ولا سلكية، إضافة إلى 25 بندقية نصف آلية فرنسية الصنع من نوع 56، و20 بندقية رشاشة فرنسية الصنع من نوع ماط، و18 مسدّسا نصف آلي من نوع ماك 50، كلّ ذلك تمّ حمله على 63 بغلا، كان هناك شهيد واحد وجريح وهو سعيد سعود، حيث أصيب برصاصة في كتفه كما ذكرنا آنفا.
على إثر ذلك، قام الجنرال صالان، القائد العام للجيش الفرنسي بالجزائر بمراسلة مختلف الهيئات والقيادات العسكرية وإخبارها بظروف اقتحام مركز الحوران والاستيلاء عليه من طرف الفلاقة حسب تعبيره (المجاهدين)، وبيّن خسارة الجيش الفرنسي في هذا الاقتحام من قتلى وأسرى وأسلحة ويطلب من الجميع اليقظة وأخذ الاحتياطات اللازمة.
وبالعودة إلى الأسرى، الذين تمكّن منهم جيش التحرير فلقد أحيطوا برعاية خاصّة وبأمر من عميروش، ووفق رواية المجاهد سعيد سعود، فإنّ الأسرى كان منهم اثنان (02) من حرس الغابات من المنصورة وثلاثة (03) خونة و19 جنديا فرنسيا، منهم الضابط دي بوس الذي أعدم بقرار من قيادة الولاية الثالثة، وجندي حاول الفرار فقتله المجاهدون، وجندي آخر مات في معركة بين المجاهدين والقوات الفرنسية، وآخر مات غرقا عند عبور الوادي...
كان العقيد عميروش، إذن حريصا على احترام المعاهدات الدولية في موضوع أسرى الحرب، فهو لم يكن قائدا عسكريا فحسب بل سياسيا وأراد إعطاء العملية أبعادها السياسية باستغلال ملف الأسرى، فكان يجالسهم ويبرز لهم عدالة القضية الجزائرية عكس ما كان يروّج له الإعلام الحربي الاستعماري والصحف الكولونيالية.
حسن معاملة عميروش للأســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرى
حرص عميروش، على حسن معاملة الأسرى وهو ما يؤكّده الملازم ناصري علاوة، الذي كان ضمن فرقة الحماية عند إطلاق سراحهم: “كنت قائد فوج في كتيبة الضابط الأول بوبكر رجراج، تلقّينا أمرا من العقيد عميروش شخصيا بمرافقة الجنود الأسرى إلى غاية مشارف يكوران، أخبرناهم بأنّنا سنطلق سراحهم فابتهجوا جميعا، كان بينهم جندي تعاطف معي، “عند وصولنا إلى تلّ يشرف على القرية نزلنا نحو الطريق الوطني الرابط بين أدكار وعزازقة، وبالمكان الذي حدّده لنا العقيد بالتحديد، أخبرنا أسرانا بأنّهم طلقاء وطلبنا منهم أن يتبعوا الطريق الوطني إلى غاية القرية، ولمّا ساروا بعيدا لوّحوا إلينا بإشارات بأياديهم معبّرين عن فرحهم باستعادة حريتهم بعد طول معاناة...”.
إنّ الضابط الوحيد، الذي لم ينج من الموت هو ديبوس حيث كان من المقرّر أنْ تتم عملية تبادل للأسرى، أيّ استعادة الضابط الحسين صالحي المعتقل في مدينة القصر، وذلك بوساطة الصليب الأحمر، لكن جيش الاحتلال رفض ذلك، وفي نفس الوقت قام عميروش بمراسلة عائلة ديبوس معبّرا عن رغبته في تبادل الأسرى كي يقيم الحجّة لدى الرأي العام الفرنسي.
وحسب ما يرويه جودي أتومي فإنّ عميروش سعى من خلال هذا لإنقاذ الحسين صالحي، وبالتالي إنجاح عملية تبادل الأسرى التي ستدفع العدوّ للاعتراف الضمني بجبهة وجيش التحرير الوطني، لكنّ فشل هذا المسعى وإعدام الضابط حسين صالحي، في جوان 1958م بالقرب من القصر من طرف الكولونيل “ليريتية” هو ما دفع بعميروش إلى اتخاذ نفس القرار بحقّ الملازم ديبوس، فأعدم بعد شهر من ذلك في نفس المكان الذي أعدم فيه حسين صالحي، ووضعت فوق جثّته ورقة كتب فيها “السنّ بالسنّ والعين بالعين، هذه حدود القصاص، قتلتم الضابط صالحي حسين فقتلنا الضابط أوليفيه ديبوس...” وكان ذلك في جويلية 1958م.