كانت حرب المناشير الوسيلة المفضلة للفرنسيين لشن حرب نفسية ضد الشعب الجزائري، ففي أفريل 1955، قامت بإسقاط منشور يحمل صورة الشهيد مصطفى بن بولعيد يتوسط عسكريين من القوات الخاصة الفرنسية، وكتب عبارة تتهم الشهيد مصطفى بن بولعيد بالكذب على الشعب، إذ تعهد بعدم مغادرة الأوراس ولكن الفرنسيين ألقوا عليه القبض في تونس، وكذبوا إدعائه..وكان المنشور قد أسقطته الطائرة الفرنسية يوم 5 أفريل بمنطقة بسكرة، ويوم 6 أفريل بمنطقة بريكة، وكان الهدف هو التأثير النفسي على المجاهدين ومحاولة نزع ثقتهم من بن بولعيد، غير أن بعض الموظفين أكدوا في تقارير متعددة أن هذه الصور كان لها تأثير إيجابي في الوسط الشعبي، وأثارت ردود فعل بين سكان الريف، وباتت انتصارا لم يتمنه الاستعمار الفرنسي..
لقد احتار الناس من هذا المنشور الذي يقع لأول مرة بالمنطقة، والتقطوه بلهفة وحب إطلاع، ولما عرفوا أن الفرنسيين يحيطون بأحد المسلمين كتب حوله عبارة غير مفهومة، وما علاقة الآية القرآنية بأسير مسلم، وطرحوا عدة أسئلة حوله.
وأثار المنشور الحيرة فعلا بين السكان، وبفضله صار بن بولعيد معروفا بين سكان الريف والمدن وأصبح حديث الجميع، في حين أنه لم يكن يمثل شيئا لهم وغير معروف بينهم، وصار بمثابة البطل أمامهم، وانعكست الآية على الفرنسيين أرادوا أن يشوهوه فخدموه من حيث لا يقصدون، وهو دليل على أنهم لم يتمكنوا من معرفة النفسية الجزائرية ومدى تلاحم المسلمين مع بعضهم البعض، وصار بن بولعيد بفضل هذه الصورة بطلا وشهيدا في نظر الشعب، وكان له أثر بسيكولوجي كبير في الوسط الشعبي، وجعل السكان من صورته دعوة للوطنية وصارت صورته مقدسة وأصبحت تباع بعشرين فرنك بين الجزائريين، وأصبح الفلاح الجزائري يهتم بصورة بن بولعيد أكثر من اهتمامه بالعبارات المكتوبة عليها.
ولعبت المناشير دورا مهما في منظور الفرنسيين فعن طريقها أراد خدمة السياسة الفرنسية الإصلاحية التي ركز فيها الحاكم العام في الجزائر على الجانب الإقتصادي، ووزع 10 آلاف منشور بمدينة عنابة، يوم 15 جوان 1956، وتعلق الأمر بدعوة العمال والفلاحين الجزائريين إلى الاندماج في عملهم ليستفيدوا من العلاوات التي بينتها المناشير، بحيث يرتفع يوميا من 390 فرنك إلى 480 فرنك.
ولعل الكمين الموجع الذي سبب خسائر لفرنسا وعلى رأسهم بارلانج، هو ذلك الذي قاده عمر البوقصي يوم 24-05-1955. ونظمه بكل شجاعة وحكمة على الطريق الرابط بين قنتيس والشريعة. بناحية تبسة على قافلة الحاكم الفرنسي DUPYU، وقتل جنوده وأسر بعضهم وغنم سلاحه بعد أن قتله وغنم محفظته الغنية بالوثائق المهمة وسلمها إلى قائد المنطقة الأولى أوراس النمامشة الشهيد شيحاني بشير الذي بدأ في دراسة الوثائق المحجوزة وعكف عليها لمدة ثالثة أيام، وأهم ما جاء فيها مخطط الجنرال بارلانج السري.
وبعد أن درسه بكل دقة، أمر المجاهدين بمواجهته ووضع لهم المخطط المضاد الذي عليهم تطبيقه، لقد خطط بارلائج لفصل الشعب عن الثورة وإغرائه بكل الوسائل، وعمد إلى تسليح السكان لدفعهم لمواجهة الثوار، وبدأ مخطط بمنحهم سلاحا مدنيا ليمتحنهم، والمنفذون لمخططه منهم يمنح له السلاح الحربي، وشن شيحاني حملة توعوية بين السكان وحذرهم من قبول ما تمنحه فرنسا لهم ليقتلوا أبناءهم المجاهدين، ووعد وهدد ونبه ووعظ وإذا وقع وأن تسلموا أسلحة من الفرنسيين عليهم الالتحاق بالثورة.
وتجول شيحاني بين الأعراش واجتمع بالأعيان بحضور قادة النواحي، وبلغهم تعليماته بكل دقة.
وتمنى عليهم العمل لإفشال مخطط بارلانج ومنع الاتصالات بين أفراد الشعب والضباط الفرنسيين، ومن يخالف التعليمات يعتبر في نظر المجاهدين مشبوها وخائنا، وستكون عقوبته قاسية.
ووزع عليهم منشورا يتعلق بالسياسة المتبعة الناعمة التي كان بارلانج ينوي اتباعها معهم ولعب أبناء المنطقة دوار مؤثرا في نفوس الأعيان والتف الجميع حول الثورة 26.
وبعد أن درس شيحاني الوثاق المحجوزة، خبأ نصفها في مكان سري وأرسل النصف الثاني إلى القائد زيغوت يوسف لدراستها والاستفادة منها ويبلغ محتواها إلى إخوانه قادة المنطقة الثانية الشمال القسنطيني، وقد استفاد منها شيحاني حين وقعت معركة الجرف، أم المعارك أيام 22-29 سبتمبر 1955.
وارتبكت القوات الفرنسية أمام ضربات المجاهدين، ولم تتمكن من اختراق مواقعهم، وازدادت حيرة أمام شجاعة المجاهدين الذين كثرت هجوماتهم على المواقع الفرنسية، ومنها الاشتباك الذي قاده المجاهدون بناحية دبيديدي بمنطقة وادي سوف بقيادة المجاهد بكرة العيد المدعو لوصيف). رفقة المجاهد فرجاني العربي، خلال منتصف فيفري 1956، وانسحب القائد مع رفاقه الخمسة نحو مدينة قفصة التونسية ناحية الرديف 28.
وازدادت الحرب النفسية حدة واشتدت على الفرنسيين وصار المجاهدون يهاجمون وحداتهم داخل المدن. وهو ما وقع يوم 28-08-1955 حينما هاجم بعض المجاهدين ثكنة الجندرمة ببلدة مسكيانة وضربوا قواتها في العمق وارتفعت معنويات الشعب وزال عنهم التردد خاصة بعدما وقع في نفس التاريخ الهجوم على مركز الرادار بعين البيضاء، وأضافوا حرق مزرعة بدوار أولمان قرب عين البيضاء يوم 29 سبتمبر 1955.
وتوسعت الهجومات على مقرات القوات الفرنسية، وهو ما وقع أيضا في مدينة الحمامات (تبسة) يوم 09-12-1956، حيث وقع الهجوم على ثكنة الجندرمة. وفي 26 ديسمبر 1956 دخل المجاهدون بقيادة المجاهد بوغرارة سعودي المدعو حشاو، بأسلحتهم الحربية إلى مدينة عين مليلة، وحثوا الشعب على تنظيم مظاهرات ضد الإدارة الاستعمارية ومقاطعة التعامل معها وفرض القطيعة المطلقة معها.
وكانت المواجهة بين الشعب والقوات الاستعمارية جهارا نهار، وهو ما أكدته التقارير الفرنسية التي ذكرت أن سكان محيط عين التوتة (باتنة) كانوا يخرجون بفؤوسهم لقطع أعمدة الهاتف ولا يبالون، وخاصة أعراش أولاد بوراس أولاد إبراهيم، أولاد خلوف وأولاد إسماعيل، وأغلب السكان كانوا يقومون بذلك دون خوف، ونقلوا الخوف والرعب إلى صفوف الفرنسيين خاصة سنة 1955 مع بداية الثورة.
وفي ضواحي سطيف بدوار بوطالب قام الثوار يوم 31 ديسمبر 1955 بحرق حافلة النقل لصاحبها جاكتا (DJACTA)، وأربكوا المعمرين، فامتنعوا عن النقل بين سطيف وقسنطينة ووصفوا العساكر الفرنسيين في حالة طوارئ حادة، كما سبقهم مجاهدو ناحية باتنة فهدموا أعمدة الكهرباء الرابطة بين المولد الكهربائي الرئيسي لمدينة باتنة وأدخلوا الناحية في ظلام دامس، يوم 24 ديسمبر 1955، ثم داهم الثوار مزرعة مرتان (MARTIN) قرب باتنة يوم 28 ديسمبر 1955 على طريق باتنة بسكرة وأحرقوها بالكامل، وأتلفوا ما بها من ممتلكات ثارت ثائرة المعمرين ضد السطلة الفرنسية واتهموها بالعجز عن حمايتهم والفشل أمام عمليات الثوار.
وعلى الرغم من القيادة أمرت المجاهدين بتحقيق هدف الانتصار على القوات الفرنسية وهزيمتها ماديا ومعنويا واستعمال كل الأساليب في الحرب البسيكولوجية، ولكنها في نفس الوقت أمرت باحترام المبادئ الإسلامية والتزام مبادئ الجهاد المقدس وتجنب قدر المستطاع الأعمال غير الشرعية واللاإنسانية وضرورة الابتعاد عن السرقة والاعتداء والقتل بدون مبرر.
وإذا كانت مصلحة الحرب النفسية التي أنشأتها الثورة خلال سنة 1955 في منطقة أوراس النمامشة قد حققت ما ذكرناه سابقا، فإن جوهرها كان الالتزام بالقيم الإسلامية والدعوة إلى الجهاد والاتسام بروح التضحية في سبيل الله والوطن، وروج أفراد هذه المصلحة لهذه المبادئ في الأوساط الشعبية، خلال خطب الجمعة وأثناء أداء الصلوات الظهر بالأساس من كل يوم بين المجاهدين والمواطنين. وهو التوقيت الذي كانت تعلن فيه الإنجازات المحققة والعقوبات الصادرة في حق المذنبين.
إصدار المناشير كأداة فعالة في الحرب النفسية وإصدار الفتاوى الشرعية، وتضمنت عبارات الاستقلال والجهاد في سبيل الله والوطن ومواجهة مناشير المكتب الثاني الفرنسي المعادية للثورة وزرع الفتنة في صفوف الشعب وحملت مناشير المجاهدين صور للعلم الوطني وآيات قرآنية الداعية للجهاد وتوحيد الصف والاقتداء بالصحابة الكرام.
ولعب الفدائيون والمسبلون دورا فعالا داخل المدن في توزيع تلك المناشير، وأوصلوها إلى مكاتب الثكنات الفرنسية، ونحن نعرف مساهمة هؤلاء المجاهدين المدنيين في عملية تموين وتمويل الثورة، وهي عملية صعبة قام بها هؤلاء بكل جدارة، إذ كان عليهم توفير المواد الغذائية وتوفير وسائل النقل وتمرير السلع وتأمينها وحراسة أمن القوافل عن طريق رجال الكشافة للمسالك والطرقات. وتمركزهم في قمم الجبال ومراقبة تحركات العدو، والوصول بالمؤن إلى أماكن التخزين المعينة مسبقا، وهم من كانوا يؤمنون الألبسة والمواد الطبية. وهم ما كانوا يقومون بحفر الخنادق والدواميس وتهيئتها لاستقبال الجرحى والمرضى من المجاهدين.
ولجأت الإدارة الفرنسية إلى توظيف بعض الجزائريين لنشر الدعاية والترويج للمناشير وإقناع المسلمين بمحتواها، غير أن المسلمين الجزائريين اعتبروا تصريحات الجزائريين المتعاونين مع الإدارة الفرنسية، هم خدم لما يمليه عليهم سيدهم (الرومي)، حسب تعبيرهم المتداول.
ومن أهم المصالح الثورية في المنطقة الأولى نجد مصلحة العناد التي كانت مهامها الأساسية التكفل بإعداد المتفجرات وصنع القنابل المحلية المضادة للأفراد والجماعات، وتعمل على تفجير الجسور وتلغيم الطرقات والمسالك لمنع قوات العدو من اختراق مواقع المجاهدين، وقطع خطوط الهاتف ومولدات الكهرباء.
استراتيجية حرب الألغام
في إطار مواجهة استراتيجية الهيمنة على مواقع المجاهدين ومنع القوات الاستعمارية من التوغل في الجبال عمل المجاهدون على نسف الجسور المؤدية إلى مواقع المجاهدين لذلك قاموا ليلة 6، 7 مارس 1956 بقطع أعمدة الهاتف وعددها 13 عمودا. ووضعوها كحواجز في الطريق، وجهزوا قنبلة محلية الصنع لنسف جسر وادي البقرات (BEGRATS) بعين الكرمة، غير أن تدخل فرقة الجندرمة بدوار روفاش تمكنت من العثور على القنبلة قبل تفجيرها، وكانت موضوعة أسفل جسر وادي البقرات (عين الكرمة بعين البيضاء).
واستعان المجاهدون بذوي الخبرة من الجزائريين الذين أخذوا تجربتهم في حرب الهند الصينية مجبرين، وعند عودتهم التحقوا بالثورة متأثرين بالحرب النفسية التي كان يقودها المجاهدون معتمدين على القيم الدينية والوطنية، ومن هؤلاء نذكر الشهيد جرموني لمين الذي أدى الخدمة العسكرية الإجبارية دفعة 1941، ونال رتبة عريف في حملة الهند الصينية، وقد وافته المنية رفقة الشهيد عيودي النوي بن صالح المولود في 01-07-1929 بدوار أولمان عين البيضاء، والذي كان رئيسا لفرقة من المجاهدين، ومحافظ سياسي لناحية في البيضاء مكلف ومشرف على تموين المجاهدين، وبرفقة شهيد ثالث قاموا ليلة 12 13 أفريل 1957 في الساعة الحادية عشر والنصف ليلا، بمحاولة وضع قنبلة محلية الصنع على الطريق الرابط بين دوار الجازية ودوار أولمان على بعد 3 كلم شمالهما، وهي المسلك الأساسي لمرور قوافل القوات الفرنسية نحو معاقل المجاهدين بالجبال، غير أن القنبلة انفجرت عليهم في الظلام الدامس واستشهدوا على إثرها..كانوا سيضعون قنبلتين لقطع طريق القوات الاستعمارية وحماية مواقع المجاهدين، غير أن الأولى انفجرت بخطأ ارتكبه أحدهم، وبقيت الثانية التي عثرت عليها فرقة الجندرمة وحددت مكونها الذي ذكرناه آنفا، وهي قنبلة تغرس في التراب على شكل لغم مضاد للدبابات ينفجر بواسطة بطارية كهربائية. وكانت ستوضع على الطريق التي عادة ما تمر بها القوات العسكرية الفرنسية باستمرار، وهي الفرقة 16/4 للمشاة، وكان للشهيد جرموني علاقة قديمة مع بعض المجندين الجزائريين بالفرقة، فاستعلم منهم عن تحركاتهم وخطط لتفجيرها. وتمكنت القوات الاستعمارية أثناء إحدى المعارك من أسر المجاهد زعيم نور الدين يوم 1957/03/23، وقد علمت أن مجموعة أخرى من هذه الألغام قادمة إلى المجاهدين من تونس، قام بصنعها الجندي الفار من صفوف الجيش الفرنسي، وانضم إلى المجاهدين علي الألماني ومخطط لها مواجهة المزنجرات والشاحنات”.
وكان الهدف من وضع القنبلتين على طريق الجازية المؤدية إلى ميدان التدريب لتفجير المزنجرات وشاحنات النقل الحاملة للعساكر، وقوة انفجارها تصل إلى 80 سم في عمق الأرض، ولعل التي انفجرت على السطح رمت ضحاياها على بعد 60 إلى 80 متر، ذلك بفعل خطأ كهربائي تسبب فيه الظلام الدامس. وقد وضعت في صندوق من خشب معبأة بـ80 غرام من مادة (Tolite) ألماني وزنه 125 غرام بلون وردي وأصفر حسب الصنع التقليدي القديم، وينفجر اللغم (القنبلة) عن طريق بطارية عادية بقوة 4.5 فولت تجارية. وكان صانعها علي الألماني له تأثر مع الجنود الفرنسيين، لذلك كتب على وجه القنبلة عبارة سفر ممتع يا ذوي الأصل النذل.
لعب الفدائيون والمسبلون دورا فعالا داخل المدن في توزيع تلك المناشير، وأوصلوها إلى مكاتب الثكنات الفرنسية، ونحن نعرف مساهمة هؤلاء المجاهدين المدنيين في عملية تموين وتمويل الثورة وهي عملية صعبة قام بها هؤلاء بكل جدارة، إذ كان عليهم توفير المواد الغذائية وتوفير وسائل النقل وتمرير السلع وتأمينها وحراسة أمن القوافل عن طريق رجال الكشافة للمسالك والطرقات، وتمركزهم في قمم الجبال ومراقبة تحركات العدو، والوصول بالمؤن إلى أماكن التخزين المعينة مسبقا، وهم من كانوا يؤمنون الألبسة والمواد الطبية وهم من كانوا يقومون بحفر الخنادق والدواميس وتهيئتها لاستقبال الجرحى والمرضى من المجاهدين.
استعان جيش التحرير الوطني بذوي الخبرة الفارين الجزائريين من الجيش الفرنسي الذين أخذوا تجربتهم في حرب الهند الصينية مجبرين، وعند عودتهم التحقوا بالثورة متأثرين بالحرب النفسية التي كان يقودها المجاهدون معتمدين على القيم الدينية والوطنية، وكرد فعل تفنن الجيش الفرنسي بتوظيف حرب المناشير الوسيلة المفضلة لهم لشن حرب نفسية ضد الشعب الجزائري في إطار مواجهة استراتيجية الهيمنة على مواقع المجاهدين ومنع القوات الاستعمارية من التوغل في الجبال عمل المجاهدون على نسف الجسور المؤدية إلى مواقع المجاهدين مع التركيز على أسلوب التلغيم وصناعة القنابل..
الحلقة الثانية