الذكرى المزدوجة 20 أوت..من هجومات الشمال القسنطيني إلى مؤتمر الصومام:

مسار التحول الاستراتيجي في الثورة الجزائرية 1955-1956

❊الدكتور نورالدين السد - الجزائر

الرصاصـة تحالـف الكلمـة..العمـل الديبلوماسـي يرافق الكفـاح المسلّح

20 أوت..شرعيـة مياديـن الجهـاد تدعمها شرعيــة الهياكـل التنظيميــة


تحلّ الذكرى المزدوجة لـ20 أوت، جامعةً بين هجومات الشمال القسنطيني (1955) ومؤتمر الصومام (1956)، كإحدى المحطات الأكثر إشعاعًا في مسار الثورة الجزائرية، ومفصلًا حاسمًا في صياغة مشروعها التحرري، فليست هذه الذكرى مجرّد وقفة رمزية أو احتفال وطني، بل هي لحظة استعادة واعية لمرحلة تاريخية تَوحَّد فيها البعدان: التعبئة الشعبية المسلحة والتنظيم السياسي المؤسّس، في مسار واحد متكامل..لقد جاءت هذه اللحظة في سياق داخلي مشحون بالآمال والمخاطر، حيث كان الشعب الجزائري قد خاض في نوفمبر 1954 ثورة كبرى ضد قوة استعمارية من أعتى القوى العسكرية والسياسية في القرن العشرين، بينما كانت الجزائر تعيش واقع القمع الممنهج، ومحاولات الإدماج القسري، والحصار الإعلامي والدبلوماسي الذي سعى الاستعمار الفرنسي إلى فرضه لعزل الثورة عن امتدادها العربي والعالمي.
وفي الوقت الذي سعى فيه الاحتلال إلى تقديم الثورة على أنها تمرّد محدود أو عمل فوضوي، جاءت هجومات الشمال القسنطيني لتقلب المعادلة، وتفتح أمامها أفقًا جديدًا من الدّعم الشعبي والميداني، فيما مثّل مؤتمر الصومام نقطة الانعطاف نحو عقلنة الثورة ومأسسة قرارها، بما عزّز قدرتها على الصمود والمناورة، وأتاح لها الانتقال من طور المبادرة الثورية إلى طور المشروع السياسي الوطني الشامل.

  إن استعادة هذه المحطة المزدوجة اليوم، ليست فقط استرجاعًا لماضٍ مجيد، بل هي أيضًا دعوة إلى إعادة قراءة الثورة الجزائرية بوصفها مدرسة في الاستراتيجية، ودرسًا عالميًا في كيفية الجمع بين الفعل المسلّح والبناء السياسي في أعتى الظروف، وهو ما يحتاج إلى تحليل علمي تاريخي يستند إلى وثائق أرشيفية، ويُقارب الحدث برؤية نقدية تستكشف أثره البعيد على مسار الاستقلال وبناء الدولة.
المحــــــــــور الرابــــــــــــع
الخريطة الزمنية الميدانية والسياسية بين 1955 و1962:
1— الخريطة الزمنية – الميدانية والسياسية:
 2- السرد الزمني التحليلي للعلاقة بين الحدثين (1955 - 1956 ):
 — 20 أوت 1955: شكلت هجمات الشمال القسنطيني بقيادة الشهيد الرمز زيغود يوسف نقطة انعطاف استراتيجية، فقد كسرت الطوق النفسي والعسكري الذي فرضته فرنسا بعد سنة من اندلاع الثورة، وأثبتت قدرة جبهة وجيش التحرير الوطني على المبادرة.
-1955 - 1956: الفترة الفاصلة بين الحدثين شهدت تصاعدًا في حدة العمليات، واتساع دائرة الانخراط الشعبي، كما شهدت إعادة تقييم أسلوب القيادة وأهمية التنسيق بين الداخل والخارج.
— 20 أوت 1956 (مؤتمر الصومام): جاء كنتيجة مباشرة للخبرات الميدانية المكتسبة بعد 20 أوت 1955، وكتتويج لمحاولة تحويل القوة العسكرية المشتتة إلى قوة منظمة ذات رؤية سياسية واضحة.
العلاقة الجوهرية بين الحدثين التاريخيين تكمن في أن 20 أوت 1955 وفّر الشرعية الميدانية التي جعلت مؤتمر الصومام ممكنًا، بينما منح مؤتمر الصومام الشرعية السياسية والتنظيمية التي ضمنت استمرار الانتشار الميداني حتى 1962.
3 - استراتيجية مسار التأثير المتبادل:
يمكن القول إن الحدثين كانا متكاملين في وظيفة التعبئة والتأطير: 20 أوت 1955 أحدث الصدمة التي كسرت المعادلة الاستعمارية، ودفعت الثورة إلى صدارة المشهدين الوطني والدولي، بينما 20 أوت 1956 أحدث التوازن الذي أعطى الثورة مرجعيتها السياسية والقانونية، وربط العمل المسلح ببرنامج سياسي واضح.
هذا التفاعل بين الشرعية الميدانية والشرعية السياسية سمح للثورة أن تواجه التحديات الداخلية الممثلة في (الخلافات القيادية، ونقص الموارد) والتحديات الخارجية الممثلة في (الحصار الدبلوماسي، والتشويه الإعلامي الفرنسي للثورة )، وأن تفرض نفسها كحركة تحرر وطنية لا مجرد تمرد مسلح.
4 - البعد الدولي وتدويل القضية الجزائرية:
أ- صدى الحدثين في المحافل الدولية والإقليمية:
هجمات الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955، رغم ما رافقها من قمع دموي واسع، أثارت اهتمام الصحافة العالمية، وأحرجت فرنسا في المحافل الدولية بسبب وحشية ردّها، خاصة في الأمم المتحدة، حيث بدأت القضية الجزائرية تُطرح بانتظام ابتداءً من سنة 1955 بعد إثارتها في مؤتمر باندونغ وتبنيها من المؤتمرين، ثم طرحها بقوة في الجمعية العامة العاشرة  لهيأة الأمم المتحدة، في السنة نفسها.
بعد مؤتمر الصومام 1956، صار للثورة خطاب خارجي رسمي، موجه إلى العواصم المؤثرة، مما ساعد على حشد التأييد في الدول العربية، ودول المعسكر الاشتراكي، وبعض دول العالم الثالث، كما تبناها أحرار العالم من أصدقاء الثورة الجزائرية في القارات الخمس.
ب - دور مؤتمر الصومام في صياغة خطاب سياسي موجه للخارج:مؤتمر الصومام وضع وثائق سياسية واضحة تضمنت أسس التمثيل الخارجي، وهيكلة وفود جبهة التحرير الوطني، وتحديد أولويات الخطاب الموجه إلى الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، والمؤسسات الإعلامية الدولية، كما أعطى للثورة شخصية اعتبارية دولية، وما جعل الوفود الجزائرية تحظى بصفة الممثل الشرعي للثورة وللشعب الجزائري.
ج - التفاعل مع جامعة الدول العربية وهيأة الأمم المتحدة:
- جامعة الدول العربية: ساهمت منذ 1955 في توفير الدعم المالي والإعلامي، وأصبحت القاهرة مركزًا دبلوماسيًا للثورة، مع تنظيم لقاءات بين قادة جبهة التحرير والدبلوماسيين العرب والأجانب.
- الأمم المتحدة: مع تزايد الضغط الدولي بعد 1955، تمكنت جبهة التحرير الوطني من إدراج القضية الجزائرية على جدول أعمال الجمعية العامة لهيأة الأمم المتحدة بشكل متكرر، ما وفّر منبرًا لكشف انتهاكات فرنسا، وكسب التعاطف مع حق الشعب الجزائري في تقرير المصير.
هذا المسار بلغ ذروته مع إعلان تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية رسميا في القاهرة في 19 سبتمبر 1958، وصدر في نفس اليوم أول تصريح لرئيسها فرحات عباس الذي حدّد ظروف نشأتها والأهداف المتوخاة من تأسيسها. وجاء هذا تنفيذا لقرارات المجلس الوطني للثورة الجزائرية في اجتماعه المنعقد في القاهرة من 22 إلى 28 أوت 1958، والذي كلف فيه لجنة التنسيق والتنفيذ بالإعلان عن تأسيس “حكومة مؤقتة”، استكمالا لمؤسسات الثورة وإعادة بناء الدولة الجزائرية الحديثة، ووضعت الحكومة المؤقتة السلطة الفرنسية أمام الأمر الواقع، وهي التي كانت تصرح دائما أنها لم تجد مع من تتفاوض، وقد عرفت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ثلاث تشكيلات من 1958 إلى 1962، حيث ترأسها فرحات عباس (1958 – 1960) واستمر في رئاستها من (1960 – 1961) ثم خلفه الرئيس بن يوسف بن خدة (1961 – 1962) واستمرت في أداء مهامها لمدة 4 سنوات و8 أيام، وفي جوان 1962 كان مؤتمر طرابلس الذي قدم فيه مشروع برنامج طرابلس لتحقيق الثورة الديمقراطية الشعبية، وصادق عليه المجلس الوطني للثورة بالإجماع، وبين سنتي 1960-1962  تحوّل الاعتراف الدولي بجبهة التحرير إلى ورقة ضغط أساسية في المفاوضات مع فرنسا، وصولاً إلى اتفاقيات إيفيان وإعلان توقيف القتال في 19 مارس 1962، ثم إجراء الاستفتاء وإعلان الاستقلال في 5 جويلية 1962.
- بهذا يظهر أن العلاقة بين 20 أوت 1955 و20 أوت 1956 لم تكن مجرد تتابع تاريخي، بل كانت سيرورة متكاملة نقلت الثورة من مرحلة إثبات الوجود إلى مرحلة ترسيخ الشرعية داخليًا وخارجيًا، مما جعل النصر في 1962 نتيجة منطقية لهذا التراكم الميداني والسياسي والدبلوماسي.
- وسرد أحداث الثورة زمنيا، من فترة 20 أوت 1955 إلى يوم الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية في 1962، يمكن  تصنيفه إلى ثلاثة أبعاد: بعد ميداني، وبعد سياسي، وبعد دولي، بحيث يمكن متابعة تطور العلاقة بين الأحداث وأثرها حتى الاستقلال.
- وهنا نذكر التاريخ والحدث، والبعد الميداني، والبعد السياسي، والبعد الدولي:

  — 20 أوت 1955 : هجمات شمال قسنطينة بقيادة الشهيد الرمز زيغود يوسف، وسعت نطاق العمل المسلح ليشمل المدنيين والعسكريين، تم سقوط عشرات القتلى من الجانب الفرنسي، واستشهاد العشرات من المجاهدين والمناضلين الجزائريين، كما تم إبراز قدرة الثورة على المبادرة، وتحفيز الانخراط الشعبي في الثورة بشكل واسع، وشكلت الهجومات صدمة إعلامية عالمية، ودعمت بدايات طرح القضية الجزائرية على جدول الجمعية العامة لهيأة الأمم المتحدة.
سبتمبر – ديسمبر 1955: رد دموي واسع من فرنسا، حيث قامت بعمليات تمشيط واسعة، واعتقالات وإعدامات للمواطنين الجزائريين، ومن أثر هذه الممارسات تم     تعزيز لحمة الجبهة داخليًا لمواجهة القمع وانتقادات الاستعمار الفرنسي في الصحافة الدولية بسبب المجازر المرتكبة في حق الجزائريين.
— بداية 1956 تصاعد العمليات العسكرية في معظم الولايات، وتنظيم وحدات جيش التحرير الوطني في هياكل أكثر انضباطًا،    مما أظهر الحاجة إلى إطار سياسي جامع لقيادة الثورة، بالإضافة إلى اتصالات مكثفة للوفد الخارجي مع الجامعة العربية ودول الجوار.
— 20 أوت 1956 انعقاد مؤتمر الصومام، وإقرار تقسيم البلاد إلى ست ولايات، وإنشاء منظام لجيش التحرير الوطني، وإنشاء هيكل قيادة موحد، بتوحيد القيادة السياسية والعسكرية، وتحديد أولويات الداخل على الخارج، صياغة وخطاب سياسي خارجي منظم، وإعداد وفود للجامعة العربية والأمم المتحدة.
— 1957 معركة الجزائر اعتماد أسلوب حرب المدن، تعزيز العمل الاستخباراتي، وزيادة التنسيق بين الداخل والخارج بعد نجاح الصومام، ومتابعة عرض القضية الجزائرية في الأمم المتحدة، دعم إعلامي عربي متزايد.
— 1958 تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، دعم عمليات جيش التحرير عبر الحدود، منح الثورة مؤسسات سياسية تمثلها دوليًا، وتحقيق اعتراف أولي من بعض الدول العربية والآسيوية والإفريقية.
— 1960 المظاهرات الشعبية في الجزائر العاصمة في (11 ديسمبر)، تراجع معنويات فرنسا أمام حجم التأييد الشعبي، وتعزيز موقف الجبهة في أي مفاوضات قادمة، وتحقيق تضامن عالمي واسع، من خلال الضغط المتزايد على فرنسا من حلفائها.
— مارس 1962 اتفاقيات إيفيان، وتحقيق    وقف إطلاق النار، والاستعداد لانتقال السلطة، وتتويج المسار السياسي والعسكري المشترك منذ 1955، باعتراف دولي شامل بحق الجزائر في الاستقلال.
— 5 جويلية 1962 إعلان الاستقلال نهاية المعارك الميدانية، وتحقيق انتصار سياسي شامل لجبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني، وتتويج مسار ثورة التحرير    بانضمام الجزائر المستقلة رسميًا إلى الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية..

المحور الخامس:
أثر الحدثين التاريخيين في مسار الثورة وبناء الدولة الجزائرية:

إنّ دراسة الذكرى المزدوجة لـ20 أوت 1955 و20 أوت 1956 لا تكتمل إلا بقراءة أرشيفية شاملة، تستحضر التفاعل الوثائقي بين مختلف المصادر الجزائرية والفرنسية والدولية، لتشكّل لوحة متعددة الأبعاد تُسهم في فهم معمّق للحدثين خارج سياق السرد الكلاسيكي. فالبرقيات الرسمية الفرنسية تكشف عن ارتباك إداري – عسكري غير مسبوق، فيما تفضح محاضر الاجتماعات الأمنية الطابع الاستعجالي لإعادة ترتيب القوة الاستعمارية في مواجهة ثورة أخذت بعدًا شعبويًا لم يكن متوقعًا، وفي المقابل، تُظهر الوثائق الجزائرية، من شهادات قادة الداخل أو وثائق جبهة التحرير الوطني، تصميمًا على إدماج البعد الشعبي بالبعد التنظيمي، بحيث يصبح العمل الثوري مشروعًا منظمًا يتجاوز الطابع الانفعالي إلى آفاق مؤسساتية، أما التقارير الأممية والصحافة الدولية، فقد كانت بمثابة المرآة العاكسة للتأثير العالمي للثورة الجزائرية، حيث بدأت القضية تُقرأ في إطار عالمي يتجاوز الثنائية الفرنسية – الجزائرية، لتتحول إلى قضية تحررية تهمّ الرأي العام الدولي.
وإذا ما انتقلنا إلى التحليل التقاطعي للمصادر، فإن التباينات تكشف عن مستويات متداخلة من التمثّل؛ فالبرقيات الفرنسية تُظهر الثورة كـ«فوضى مسلّحة” تهدد “النظام العام”، بينما تقارير الصحافة الأمريكية والآسيوية - وخاصة في الهند ومصر - تقرأها كفعل تحرري يعيد الاعتبار للشعوب المستعمرة، هذا التناقض بين “اللغة الرسمية الاستعمارية” و«اللغة التحررية الدولية” يتيح  فرصة لفهم كيف انتقل الخطاب الجزائري من محليته الضيقة إلى العالمية عبر رافعة التفاعل مع الخارج؟.
ومن أبرز تجليات هذه القراءة، أثر مقررات مؤتمر الصومام على تنظيم جيش التحرير الوطني؛ إذ إن الوثائق الداخلية تؤكد أن الصومام لم يكن مجرد محطة تنظيرية، بل لحظة تأسيسية لإعادة هيكلة جيش التحرير الوطني على أسس عسكرية - سياسية دقيقة، حيث تم تحديد سلم القيادة، وضبط العلاقة بين الجناح السياسي والعسكري، وإعطاء الداخل مركزية القرار مع توازن ضروري مع الخارج، هذه القرارات – التي تكشفها محاضر الصومام ومراسلات لاحقة - شكّلت نقلة نوعية في ضبط إيقاع الثورة، وحوّلت جيش التحرير الوطني من مجرد وحدات قتالية متفرقة إلى بنية نظامية موحدة، وهو ما انعكس على قدرتها على الصمود في وجه الآلة الاستعمارية الفرنسية الضخمة.
ولا يمكن في هذا السياق إغفال العلاقة العضوية بين “استراتيجية 20 أوت” و«مفاوضات إيفيان”. فالتصعيد الميداني في الداخل – والذي كانت ذروته في أحداث 20 أوت – فرض على فرنسا الاعتراف باستحالة الحل العسكري، وهو ما تترجمه الوثائق الفرنسية الداخلية التي بدأت، منذ 1957، تطرح سؤال المخرج السياسي، ثم جاءت مقررات الصومام لتؤكد أن الثورة تملك مؤسسات وقيادة سياسية قادرة على التفاوض باسم الشعب، وهو ما منح جبهة التحرير الوطني شرعية كاملة في المحافل الدولية وأمام فرنسا ذاتها، وبذلك فإن خيوط العلاقة بين العمل الميداني والتنظيمي من جهة، والمسار الدبلوماسي من جهة ثانية، تتضح في كون كليهما مثّل رافعتين متكاملتين مهّدتا الطريق لمفاوضات إيفيان.
وعلى المستوى الأوسع، فإن التفاعل بين الداخل والخارج أسهم في تطوير العمل الثوري، فبينما جسّد الداخل الشرعية الميدانية، تولى الخارج مهمة التدويل، سواء عبر الوفود التي نشطت في هيئة الأمم المتحدة أو من خلال شبكات التضامن في العواصم العربية والإفريقية والآسيوية، هذا التفاعل الجدلي بين “بندقية الداخل” و«منبر الخارج” أنتج معادلة فريدة، حيث استطاعت الثورة أن تفرض حضورها كقضية عالمية لا يمكن تجاهلها، وجعلت من فرنسا في موقع الدفاع بدل الهجوم.
أما على المدى البعيد، فإن الأثر الاستراتيجي للحدثين لا يتوقف عند حدود الاستقلال، بل يمتد إلى عملية بناء الدولة الوطنية، فالانتقال من “الثورة إلى الدولة” لم يكن مسارًا سهلاً، إذ واجه تحديات مرتبطة بإرث الصومام ذاته: بمركزية الداخل، وأولوية السياسي على العسكري، وضرورة بناء مؤسسات تستمد شرعيتها من الثورة، وقد أثّر هذا الإرث على طبيعة النظام السياسي بعد 1962، حيث حملت الدولة الجزائرية الوليدة ملامح التوتر بين الشرعية الثورية والشرعية المؤسساتية.
وأخيرًا، فإن إرث هذه الثنائية (20 أوت 1955 – 20 أوت 1956) يتجلّى في كونها أسست لمعادلة ثورية – دولية في آن واحد، فقد رسّخت الأولى أن الثورة الشعبية المسلحة قادرة على فرض حضورها على قوة استعمارية عظمى، بينما رسّخت الثانية أن الثورة تحتاج إلى عقل مؤسسي وتنظيمي لكي تستمر وتنتصر، وهذه الثنائية ستبقى، في ذاكرة الجزائر السياسية، علامة فارقة على أن بناء الدولة الحديثة لم ينطلق من فراغ، بل من رصيد ثوري متجذر في التضحية والتنظيم والشرعية الشعبية.
 إن الغاية التي نتطلع إليها من هذه القراءة في الذكرى المزدوجة لـ 20 أوت اليوم الوطني للمجاهد هي الوصول إلى نتائج نجملها فيما يلي:
—النتائج التي يمكن استنتاجها من القراءة التاريخية لمسار ثورة التحرير الجزائرية:
1- الذاكرة الوطنية ركيزة الهوية:
وأحداث 20 أوت جسّدت تلاحم الشعب الجزائري في الدفاع عن سيادته، وأكدت أن الذاكرة الوطنية هي أساس الوحدة والهوية الجماعية.
2- المقاومة الشعبية قوة متجدّدة:
الهجمات البطولية سنة 1955 أثبتت قدرة الجزائريين على قلب موازين القوى رغم اختلال موازين العتاد، وهو ما يؤكد أن إرادة الشعوب تتغلب على الاستعمار.
3- مؤتمر الصومام خطوة مؤسِّسة:
 مثّل المؤتمر نقلة نوعية من العمل الثوري العفوي إلى العمل المؤطَّر، حيث وُضعت أسس تنظيمية وسياسية وعسكرية لبناء الدولة الوطنية.
4- الشرعية الثورية أساس الشرعية السياسية: الأحداث بينت أن شرعية الدولة الجزائرية الحديثة متجذرة في تضحيات شعبها وقرارات قادتها الثوريين.
5- البعد الدولي للنضال:
 20 أوت أبرز أن الثورة الجزائرية كانت حدثًا عالميًا حرك الرأي العام الدولي لصالح القضية الجزائرية.
6- الذاكرة وسيلة للمناعة الوطنية:
 التمسك بالذاكرة التاريخية يوفر حصانة ضد محاولات التزييف أو الاستلاب الثقافي والفكري.
— ومن هنا يمكن أن الإدلاء ببعض الاقترحات بناء على النتائج المشار إليها وتتمثل هذه الاقترحات في:

1- تعزيز التربية التاريخية: بإدماج أحداث 20 أوت في المناهج الدراسية بشكل معمق ومبدع، مع إبراز أبعادها السياسية والإنسانية والقيمية.
2- حماية الذاكرة الوطنية: بإنشاء مراكز أبحاث وأرشيفات رقمية تحفظ شهادات المجاهدين والوثائق الوطنية والدولية المتعلقة بالثورة.
3- ترسيخ ثقافة الاعتراف: ترقية المناسبات الوطنية إلى فضاءات للتأمل والنقاش وإبراز رمزية الشهداء والقادة المؤسسين.
4- القراءة الإيجابية لميثاق مؤتمر الصومام: وفهم مبادئ التنظيم والشرعية المؤسساتية التي وضعها المؤتمر في لحظته التاريخية من أجل تعزيز الحوكمة الرشيدة والديمقراطية التشاركية.
5- ربط الذاكرة بالتنمية: استثمار الرموز الوطنية والأحداث التاريخية في تنمية السياحة الثقافية والتاريخية، بما يعزز الاقتصاد الوطني ويغذي روح الانتماء.
6- إشراك الشباب: بفتح المجال أمام الأجيال الجديدة لتلقي الذاكرة الحية عبر مشاريع ثقافية وفنية ورقمية، حتى تكون حاضرة في الوعي الجمعي.
7- البعد الدبلوماسي المتجدد لمؤتمر الصومام: استثمار الذكرى في تعزيز الدبلوماسية التاريخية الجزائرية، والتذكير بمساهمة الثورة الجزائرية في دعم حركات التحرر العالمية.
8- تنمية شاملة ومتوازنة: بربط قيم التضحية والوحدة التي جسدها تاريخ أول نوفمبر 1954 وتاريخ 20 أوت 1955 و20 أوت 1956 وما قدم الشعب الجزائري من تضحيات إلى تاريخ الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية وجلاء الاحتلال، وضرورة مواصلة تعزيز بناء مؤسسات الدولة، ومواصلة مسار التنمية المستدامة والشاملة والمتوازنة في جميع القطاعات وجميع جهات الوطن.
قائمة المراجع  والوثائق الأرشيفية:
— رضا مالك، الجزائر في إفيان، تاريخ المفاوضات السرية 1956-1962، ترجمة فارس غصوب، anep. دار الفارابي 2003.
—علال بيتور، الثورة الجزائرية في منطقة الشمال القسنطيني (نوفمبر 1954 جويلية 1955) دار النفائس، الجزائر 2022. وزارة المجاهدين وذوي الحقوق.
— محمد لحسن زغيدي، مؤتمر الصومام وتطور ثورة التحرير الجزائرية 1956 -1962.دار هومة، 2015، وزارة المجاهدين وذوي الحقوق.
— النصوص الأساسية لثورة نوفمبر 54. نداء أول نوفمبر، مؤتمر الصومام، مؤتمر طرابلس، منشورات ANEP 2008  وزارة المجاهدين.
— شهادات ومذكرات مجاهدين، وفيديوهات، ووثائق من الأرشيف الوطني الجزائري.

الحلقة الثانية

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19855

العدد 19855

الخميس 21 أوث 2025
العدد 19854

العدد 19854

الأربعاء 20 أوث 2025
العدد 19853

العدد 19853

الثلاثاء 19 أوث 2025
العدد 19852

العدد 19852

الإثنين 18 أوث 2025