بيان سياسي وأخلاقي ينقل إفريقيا من موضع التهميش إلى موقع الفاعلية
من التحرر السياسي إلى التحرر الاقتصادي..الجزائر تقود معركة التنمية
لم يكن الخطاب الذي ألقاه رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، بمناسبة افتتاح الطبعة الرابعة لمعرض التجارة البينية الإفريقية حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، كما جرت العادة، وإنما جاء في شكل بيان استراتيجي شامل، يضع خريطة طريق لمستقبل إفريقيا في عالم مضطرب، فالكلمة التي استمع إليها قادة القارة وضيوفها الدوليون، حملت عناصر قوة متعددة، وقدّمت تشخيصا دقيقا، اعتمد على المعطيات الواقعية والأرقام، واستحضر الرئيس فيه جميع ما يوضّح أن إفريقيا – على الرغم من ثرائها - تعاني التهميش والإقصاء، واقترح – لتجاوز ذلك، حلولا عملية مدعومة بمشاريع ملموسة، إضافة إلى رؤية إنسانية وأخلاقية سامية تجعل الجزائر في موقع الفاعل والشريك الموثوق.
منذ الاستهلال، وضع الرئيس تبون كلماته في سياق عالمي شديد الحساسية، حيث تتهدد منظومة العلاقات الدولية بانهيارات متلاحقة، وتتعاظم المخاطر التي قد تجعل إفريقيا مجددًا في موقع الضحية. هذا التشخيص لا يكتفي بالإشارة إلى الوضع، بل يضعه في إطار سياسي وأخلاقي..هناك خطر يتهدد القارة ويريد أن يُخفت صوتها ويُهمّش دورها، مع أن إفريقيا تختزن إمكانات هائلة، ما يعني أن القضية لا يمكن أن تكون اقتصادية محضة، فهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بـ»السيادة» وحق القارة في مكانة مستحقة بالمنظومة العالمية.
الجزء الثاني من الخطاب انتقل إلى تشخيص واقعي مدعّم بالأرقام، وهي سمة أعطت الكلمة قوة غير مألوفة في المناسبات المماثلة عبر العالم، فالرئيس عرض أربع معطيات محورية: ضعف الحضور الإفريقي في المؤسسات الاقتصادية الدولية، تدني حصتها في التجارة العالمية، ضعف التبادلات البينية، وعمق الفجوة في البنية التحتية..هذه المعطيات لم تُذكر بشكل عابر، بل أُبرزت بالدقة: إفريقيا لا تتجاوز حصتها 6.5 بالمائة من حقوق التصويت في صندوق النقد الدولي، و11 بالمائة في البنك الدولي، بينما حصتها من التجارة العالمية لا تتجاوز 3 بالمائة رغم امتلاكها 30 بالمائة من ثروات العالم الطبيعية..الاستثمارات الوافدة إليها لا تتجاوز 94 مليار دولار سنويًا، أي ما يعادل 6 بالمائة فقط من التدفقات العالمية، أما التجارة البينية، فهي في حدود 15 بالمائة مقابل 60 بالمائة في أوروبا..إلى جانب ذلك، تخسر إفريقيا سنويًا 2 بالمائة من ناتجها المحلي بسبب فجوة البنية التحتية المقدرة بـ90 مليار دولار سنويًا.
هذه الأرقام، تحولت في الخطاب إلى مرآة صادمة تُظهر المفارقة بين الإمكانات والواقع، وتؤكد ما تعاني إفريقيا جراء التهميش والإقصاء الذي فرضته الكولونياليات القديمة، وتحرص على تجذيره الكولونياليات الجديدة.
ولم تكن قوة الخطاب في التشخيص وحده، بل في الانتقال السلس إلى طرح حلول عملية ومشاريع ملموسة، وهنا برزت الجزائر كفاعل رئيسي، ليس بالكلمات، بل بالأفعال والمشاريع الكبرى التي انطلقت فعليًا، فقد استعرض الرئيس الطريق العابر للصحراء، وأنبوب الغاز الجزائر-نيجيريا، ومشروع الألياف البصرية، وخطوط السكك الحديدية نحو مالي والنيجر، إضافة إلى فتح خطوط جوية وبحرية جديدة، وتدشين مناطق للتبادل الحر وفروع للبنوك الجزائرية في إفريقيا، ولم يذكر الرئيس تبون هذه المشاريع كإنجازات وطنية ضيقة، بل قدّمها كجزء من إستراتيجية إفريقية جماعية، هدفها ربط القارة ببعضها البعض، وتحريرها من التبعية للمنافذ الأوروبية..ولقد عرف الرئيس كيف يقرّب الفكرة حين قال: «لن نستطيع أن نقول إن الجزائر إفريقية بينما السفر إلى أديس أبابا أو داكار يمر عبر عاصمة أوروبية»..الرئيس تبون لخص الواقع المعيش، وأوضح فلسفة مقاربته: التكامل الاقتصادي ليس فقط تنمية، بل هو سيادة..
في خضم هذا العرض، أضاف الرئيس بعدًا إنسانيًا وأخلاقيًا يعكس فلسفة الدبلوماسية الجزائرية، فقد ذكّر بـ»الدور الصامت للجزائر» في محو ديون عدة دول إفريقية، وفي تكوين أجيال من الإطارات منذ الاستقلال، من دون ضجيج أو منّة. وقال: «نحن نناضل في صمت من أجل إفريقيا»، وهي مقولة تختصر رؤية الجزائر القائمة على التضامن غير المشروط مع الدول الإفريقية، كما أطلق تحذيرًا أخلاقيًا عندما قال إن «إفريقيا ليست حقل تجارب لأسلحة أجنبية»، وهو موقف واضح يربط التنمية بالسيادة ويرفض تحويل القارة إلى ساحة صراعات. هذا البعد الأخلاقي أعطى الخطاب قوة تتجاوز لغة الأرقام والمشاريع.
ومن بين أبرز محاور الخطاب، تركيزه على الشباب كرهان استراتيجي للمستقبل، فقد وصف الرئيس تبون إفريقيا بأنها «قارة شابّة»، وأكد أن كل ما يُبنى اليوم إنما هو لصالح شبابها، ولم يقف عند مستوى الشعارات، بل استعرض مساهمات ملموسة..آلاف المنح الدراسية التي توفرها الجزائر سنويًا للشباب الإفريقي في مجالات متقدمة كالذكاء الاصطناعي والروبوتيك والتقنيات النانو، فضلاً عن مراكز الامتياز الجامعية..الاستثمار في رأس المال البشري يُترجم وعيًا بأن الثروة الحقيقية للقارة ليست فقط في مواردها المنجمية، بل في طاقات شبابها. وقد عبّر الرئيس تبون عن ذلك بقوله: «الحمد لله، رأينا من خلال الشباب الجزائري والإفريقي أنه شباب مبتكر، يعرف كيف يسير أموره، وليس لديه عقدة مع أي قارة أخرى»، وهي شهادة تمنح الثقة والاعتراف بجيل جديد قادر على قيادة التحول، وبناء النهضة الشاملة.
البعد الآخر الذي ميّز الخطاب هو الرؤية الجماعية، فالرئيس تبون لم يضع الجزائر في موقع «المتفرّد بالقرار»، بل في موقع «الشريك الفاعل»، وهو يقول: «الجزائر لن تكون إلا طرفًا فاعلاً في مثل هذا المسعى، وهي التي أخذت على عاتقها أن تساهم بقدر المستطاع في رفع هذا التحدي لصالح الأجيال الحالية والمستقبلية»، مؤكدًا أن النهضة الإفريقية لن تتحقق إلا عبر «مضاعفة الجهود، وحشد الطاقات وتوحيد المساعي»..هذه اللغة الجماعية تتناغم مع روح الاتحاد الإفريقي ومع فلسفة التكامل جنوب-جنوب، فالرئيس ربط بين التكامل الاقتصادي وبين القدرة على استعادة المكانة الدولية، داعيًا إلى تحويل منطقة التجارة الحرة القارية إلى «أداة فعلية للتنمية، ونقطة انطلاق نحو استعادة إفريقيا لمكانتها المستحقة على الساحة الدولية بسلم وسلام وأمن وأمان».
ولعل نقطة القوة العليا في الخطاب التاريخي للرئيس تبون، تكمن في المزج بين الواقعية والعاطفة، فالخطاب اعتمد لغة الأرقام والحقائق الموضوعية، ولكنه فتح المجال لما هو وجداني يعبر عن التزام شخصي ووطني بالقضية الإفريقية، فقد قال: «بهذه الكلمات التي ربما تكون عاطفية (...) نابعة من صميم القلب، نحن نناضل من أجل تنمية إفريقيا حقيقية، إفريقيا ليست حقل تجارب لأسلحة أجنبية، إفريقيا محتاجة للتنمية، من أراد أن يوقف الهجرة يساعدنا لتنمية بلدان إفريقيا، وإعطاء فرص العمل لشباب إفريقيا».
وظاهر أن خطاب الرئيس تبون، ببنيته المحكمة، ومنهجيته الصارمة، يمثل وثيقة استراتيجية تاريخية، فقد قدّم التشخيص الدقيق، وحدد أهدافًا واضحة (زيادة التجارة البينية، تعزيز البنية التحتية، الاستثمار في الشباب)، واستند إلى مشاريع عملية قيد الإنجاز، ثم أرفق هذه الأبعاد برؤية سياسية وأخلاقية تجعل من النهضة الإفريقية مسألة سيادة. كل ذلك يجعل الكلمة أكثر من مجرد خطاب افتتاحي، بل ورقة عمل متكاملة يمكن أن يعتمدها صانعو القرار الأفارقة.
إن ما طرحه الرئيس تبون في خطابه، ينسجم مع تاريخ الجزائر الذي ألهم القارة في كفاحها التحرري، وها هو اليوم يلهمها في كفاحها الاقتصادي، وإذا كانت الثورة الجزائرية قد ساهمت في بناء إفريقيا المستقلة سياسيًا، فإن الرؤية الجزائرية الجديدة تسهم في بناء إفريقيا المتحررة اقتصاديًا. ما يجعل من خطاب الرئيس تبون امتدادًا لذاكرة تاريخية مشتركة، وتحوّلاً نحو معركة جديدة: معركة التنمية والندية في عالم لا يرحم الضعفاء.
في الأخير، يمكن القول إن الخطاب لم يكن فقط مرافعة من أجل إفريقيا، بل تأكيدا على خيار استراتيجي للجزائر نفسها: العودة القوية إلى العمق الإفريقي، ليس بصفة ظرفية، بل باعتباره مستقبلها ومجالها الحيوي.