التنافس المحموم على الريادة عمق لا عدالة الحصول عليها

إنتاج لقاحات «كورونا» تغليب المصلحة على الصحة

د. آسيا قبلي (باحثة في الدراسات الاستراتيجية)

يشهد العالم في الآونة الأخيرة ارتفاعا ملحوظا في عدد الإصابات والوفيات جراء التحورات المختلفة والفتاكة لفيروس كورونا، خاصة في بلدان القسم الجنوبي من الكرة الأرضية، وذلك بسبب عدم الحصول العادل على اللقاح، الناجم هو الآخر عن التنافس بين القوى المنتجة للقاحات، وصراعها الجيوسياسي في عالم يشهد تحولا من نظام أحادي إلى متعدد الأقطاب. ولم يوقف اشتداد الجائحة مكائد هذا الطرف ضد ذاك، خاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. وعلى عكس الأوبئة السابقة، لم تتمكن إدارة الأوبئة لمنظمة الصحة العالمية من إدارة جائحة كورونا بسبب هذا التنافس المحموم على الريادة.

وقد زاد ذلك من الفجوة بين الشمال والجنوب التي تسعى فيها البلدان الغنية بثبات إلى الحصول على مناعة القطيع في حين أن العديد من أفقر دول العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية متخلفة بسبب النقص الحاد في اللقاحات. ويمكن القول إن «دبلوماسية اللقاحات»، كما نفذتها الولايات المتحدة والصين بنشاط، لا تسد الفجوة المتعددة الأطراف لضمان الوصول العادل إلى كل بلد.

أمريكا من «العزلة» إلى الانخراط الكامل

بعد العزلة التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال عهدة الرئيس السابق دونالد ترامب تحت شعار « أمريكا أولا (America first):» قررت الإدارة الجديدة العودة إلى المنافسة العالمية تحت شعار» أمريكا قد عادت( America is back): «، حيث تعتبر الوم أ أنه عليها استرجاع مكانتها الريادية في قيادة العالم، بعد أن تركت إدارة ترامب فراغا ملأته كل من الصين وروسيا، خاصة من خلال التسيير الناجح لجائحة فيروس كورونا المستجد في بلديهما وكذا على المستوى العالمي. ففي وقت غرقت الو م أ في مضاعفات وباء كورونا في بداياته و تحفظت منذ بدء تطبيق البروتوكول الصحي هيدروكسي كلوروكين على استعماله، الأمر الذي أدخلها في أزمة صحية بسبب كثرة الوفيات وبدت عاجزة عن التصرف، لكن بعد التسيير الكارثي للجائحة تمكنت من تصنيع ست لقاحات محلية، حجزت منها الدول الغربية 90 بالمائة، بينما تأخرت الدول الأوروبية مجتمعة في ذلك عدا لقاحي أسترازينيكا الأنجلو سويدي والألماني. يشار هنا إلى أن الأزمة زادت من تبعية أوروبا للولايات المتحدة الأمريكية ووجدت نفسها مجبرة على الاعتماد شبه الكلي على اللقاح الأمريكي إلى حين. ولكن مع السيطرة على الوباء في الولايات المتحدة، وضعت إدارة بايدن الجديدة الخارج نصب عينيها مع تعهد واشنطن بالتبرع بلقاحات كوفيد-19  إلى دول المحيطين الهندي والهادئ ابتداء من شهر مارس.

الصين من مصدر الفيروس إلى ريادة العالم

فالصين ورغم أنها كررت أنها لا تسعى لقيادة العالم على حساب الولايات المتحدة الأمريكية إلا أن نجاحها في تسيير الحائجة داخليا والهبات والمساعدات التي قدمتها لمختلف الدول الصديقة وخاصة الدول النامية، أثبت فعليا أن تسلك سلوك القوة العظمى المسؤولة التي تهتم لشؤون الغير وليست أنانية عكس خصمها الأمريكي. وأبعد من ذلك وافقت منظمة الصحة العالمية بداية من الفاتح جوان الماضي على الاستخدام الطارئ للقاح سينوفارم الصينى وهى خطوة وصفها بعض خبراء الصحة بانها « غيرت قواعد اللعبة « حيث انها تسمح بتزويد العالم النامي بمزيد من جرعات اللقاح، وهو يصب في صحة فرضية أن الصين جهة فاعلة عالمية مسؤولة في وباء كوفيد-19 .
وبالعودة إلى بداية الجائحة سجلت الصين تقدما في محاصرة الفيروس المستجد في ووهان والحد من انتقاله إلى مقاطعات أخرى، وسارعت منذ بدء انتشاره في دول العالم المختلفة، إلى تقديم مساعدات طبية في شكل هبات، وبعد إعلانها عن اكتشاف لقاح « سينوفاك»، منحت أولوية حصول الدول الصديقة،عليه  خاصة دول الجوار إذ قدمت نحو 400 مليون جرعة لدول جنوب شرق آسيا لمساعدتها على التغلب على فيروس كورونا المستجد، وكان لإندونيسيا أكبر بلد إسلامي الحصة الأكبر منه. كما منحت نصف مليون جرعة لباكستان و750 ألف جرعة لجمهورية الدومينيكان.
وقدمت هبات أخرى للدول الصديقة من خارج المنطقة، فمنحت الجزائر 200 ألف جرعة في بداية الأزمة، وهي التي كانت سباقة إلى مد يد العون للصين عندما اشتد الفيروس في مقاطعة ووهان، كما منحت الكمية نفسها لكل من السينغال وسيراليون وزيمبابوي، واستفادت تونس من هبة بمئة ألف جرعة ولبنان من 50 ألف جرعة. يبدو المنح انتقائيا للدول التي تسير في فلك الصين أو لدول فقيرة لا تستطيع الحصول على اللقاح، وواضح أن هذا متعمد لاستقطابها في إطار التنافس مع الو م أ في قيادة العالم.
أما في أوروبا فقد قررت ثلاث دول اعتماد اللقاح الصيني دون العودة إلى الوكالة الأوروبية للأدوية وهي: سلوفاكيا وجمهوريتي تشيكيا والمجر التي اشترت خمسة ملايين جرعة من لقاح سينوفاك، إلى جانب صربيا. ما جعل الصين تبدو بطلة مخلصة. وبالمحصلة باعت الصين أو تبرعت باللقاحات لأكثر من 69 دولة حول العالم، في وقت تقوم البلدان المتقدمة في الغرب باحتواء الوباء على شواطئها وتكديس الكثير من إمدادات اللقاحات في العالم، مع التركيز على برامج التطعيم الخاصة بها.
التنافس الجيوسياسي يطغى على أولوية الصحة
هذا الانتقاء في منح وبيع اللقاحات يؤكد مرة أخرى أن تسيير الجائحة يخضع للتنافس الجيوسياسي للقوى الكبرى، ما يجعلها (أي اللقاحات) سلعة كغيرها تباع وتشترى، وإن لم يكن الربح المادي هنا أساسيا، فإن الرهان كان حول من يربح مناطق نفوذ أكبر في إطار السباق على ريادة قيادة عالم ما بعد كورونا. بعيدا عن الاهتمام بالعالم النامي الذي يعاني صعوبة في تأمين جرعات للتصديللجائحة. وعليه يشهد العالم الآن لا عدالة فيالحصول على اللقاحات بين البلدان المتقدمة التي تخزن معظم هذه اللقاحات وأفقر البلدان التي تفتقر إليها.
هذا التنافس يضع قيود واضحة في الالتزامات الثنائية التي قطعتها واشنطن وبكين على حد سواء تجاه بلدان نامية محددة تتماشى مع مصالحهما الوطنية. وفي حين تزود الصين سكان الجنوب باللقاحات التي تشتد الحاجة إليها، فإن كميات الجرعات المعنية لا تزال بعيدة عن الطلب الحقيقي. و لا يزال السؤال كبيرا عما إذا كانت الصين قادرة على إنتاج جرعات كافية من اللقاحات لتلبية احتياجاتها المحلية الآخذة في التوسع، ناهيك عن احتياجات العالم خارجا، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، قد لا يكون تعهد الولايات المتحدة الأمريكية بتخصيص لقاحات لدول المحيطين الهندي والهادئ في مصلحة أفقر بلدان أفريقيا وأمريكا اللاتينية لأنها أيضا في حاجة ماسة إلى اللقاحات بقدر ما تحتاج إليها نظيراتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي حين أن تعهد بايدن الأخير بالتبرع بكمية معينة من لقاحاتها البالغ عددها 80 مليون لقاح (استرازينيكا وفايزر ومودرنا وجونسون آند جونسون) إلى كوفاكس( COVAX ) يقدم بصيص أمل في سد العجز البالغ 150 مليونجرعة في المرفق الذي تدعمه منظمة الصحة العالمية، إلا أن  ذلكلا يزال (أي تعهد بايدن) قاصرا عن إقناع العالم بأن واشنطن تعود كزعيم عالمي في النظام المتعدد الأقطاب. وهي تحتاج إلى تخصيص كمية لا بأس بها من جرعات اللقاح ل «كوفاكس» كدليل على تصميمها على أن تكون رائدة عالمية «عائدة» مع ضمان الحصول العادل على اللقاح في جميع أنحاء العالم.
ورغم هذا التنافس فإن هناك مساحة للعمل المتعدد الأطراف على رأسها الصين والولايات المتحدة الأمريكية التي عليها أن تقنع الدول المتقدمة الدائرة في فلكهابعمل جماعي للتنازل مؤقتا عن حماية الملكية الفكرية للقاحات كوفيد-19 ، ولكن مع ضمانات قوية ضد إساءة الاستخدام من قبل بعض الأوساط. في حالوقت الذي قد تستغل الصينإدراج منظمة الصحة العالمية لقاح سينوفارم لمرفقها التابع لـ «كوفاكس» وأن توفر كمية لا بأس بها من جرعات اللقاح التي تتوافق مع وضعها كقوة عالمية صاعدة. في انتظار أن تقر المنظمة العالمية للصحة لقاحات أخرى لاستخدامها في حالات الطوارئ في المستقبل.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024