كان أهل نجران يحترمون السحرة؛ لأنهم كانوا يخبرونهم ببعض ما يحدث في الغيب، وكان الملك يخدمه ساحر كبير، فطلب من الملك أن يرسل إليه فتى يعلمه السحر؛ حتى يخدمه بعده، فأتاه بفتى ذكي، فكان يذهب إلى الساحر يتعلم أمور السحر، وكانت هناك صومعة لراهب في الطريق بين الساحر وقرية الفتى “عبد الله بن التامر”.
لاحظ الفتى عبد الله الراهب وعبادته، فأحب الجلوس إليه، وعلمه الإيمان بالله، وكان دائمًا يتأخر عن موعد الساحر حتى ضجر منه، فيقول: “أخرني أهلي”، وإذا أضجره أهله قال لهم: “أخرني الساحر”.
وظل الفتى عبد الله في حيرة.. إنه أصبح يكره السحر، ويحب الراهب وعبادته لله، ولكن ماذا يصنع؟
في يوم من الأيام رأى في الطريق دابة كبيرة تسد على الناس طريقهم، فقال: “الآن أعرف أي الأمرين أحبُّ إلى الله؛ أمر الراهب أم أمر الساحر”، ثم أمسك بحجر ودعا قائلاً: “اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة”، ثم رمى الدابة بالحجر فوقعت صريعة، واشتهر أمر الغلام، وظل يدعو الناس إلى الإيمان بالله (تعالى) على دين المسيح (عليه السلام).
وكان الغلام يشفي المرضى بإذن الله، ويبصر الأعمى بإذن الله، بشرط أن يؤمن المريض، ثم يدعو الغلام الله، فيُشفَى من دعا له، وسمعه جليس للملك، وكان أعمى لا يبصر، وقال له: “رُدّ عليَّ بصري، ولك هدايا ثمينة”. فقال: “أنا لا أشفي”. فقال: “ردّ عليَّ بصري ولك كل مالي”. فقال: “ ما أشفي أنا أحدا، إنما يشفي الله -عز وجل-، فإن أنت آمنت به، فدعوت الله، فشفاك. فآمن فدعا الله له فشفاه، ثم أتى الملك، فجلس قريبا منه، فقال له الملك: “من رد إليك بصرك؟”. قال: “ربي وربك الله”. فسأله: “من علمك هذا الكلام؟”، فلم ينطق بكلمة، فعذبه حتى دلّ على الغلام، وعذب الغلام حتى دل على الراهب، فعذب الملك جليسه والراهب كي يرتدا عن الإيمان بالله، فلم يفلح، فقتلهما.
ولم يرِد الملك أن يقتل الغلام، فأمر جماعة من جنوده أن يأخذوه، ويذهبوا به إلى أعلى جبل، ثم يأمروه أن يرجع عن دينه إلى دين الملك، فإن رجع فليأتوا به، وإن لم يفعل فليقتلوه، فلما صعد الغلام والجنود أعلى الجبل دعا الغلام الله قائلاً: “اللهم اكفنيهم بما شئت، وكيف شئت”، فاهتز الجبل، فماتوا جميعًا، وعاد الغلام إلى الملك مرة أخرى.
فلما رآه الملك واقفًا أمامه تعجب، وقال: “كيف مات الجنود ولم تمت؟!”، فقال: “كفانيهم الله عز وجل”. فأرسل معه بعض الجنود إلى منتصف البحر، وأمرهم إن رجع عن الإيمان بالله عادوا به، وإلا رموه في البحر، فلما ركبوا السفينة وانتصفوا البحر دعا الله قائلاً: “اللهم اكفنيهم بما شئت، وكيف شئت”، فهاجت الرياح، وتلاطم الموج، وغرق الجنود، وحفظ الله الغلام المؤمن، ثم رجع إلى الملك، فاغتاظ أكثر.
وحاول الملك أن يقتل الغلام، فقال: “لن تستطيع”، فقال: “فكيف أقتلك؟”، فقال: “تجمع الناس في مكان واحد، ثم تأخذ سهمًا من سهامي، ثم تمسك به وتقول: باسم الله رب الغلام”. ففرح الملك، وحشد الناس في مكان واحد، ثم أخذ سهمًا من سهام الغلام، وصوبه ناحيته، وقال: “باسم الله رب الغلام”، فطار السهم في صدغ الغلام، وما زال الدم ينزف حتى مات شهيدًا، وحدث ما لم يكن يتوقعه الملك؛ فقد آمن الناس بالله، وقالوا: “آمنا برب الغلام”.
فاغتاظ الملك، وجاء إليه أحد المقربين وقال: “كنت تخشى إيمان قليل من الناس، فقد آمن أهل نجران”، فأمر بحفر الأخاديد، وأن تُشعل نار، فمن ارتد عن الإيمان بالله نجا من الوقوع في نار الأخدود، ومن أصر أُلقي في الأخدود، فأصر الناس على الإيمان بالله، بعدما رأوا بأعينهم حقيقة الإيمان من الغلام والراهب والجليس، وكان بين الناس امرأة لها أولاد صغار، فألقوا بولدين لها في النار، وكان معها رضيع، فخافت عليه، بل أوشكت أن ترتد، فأنطق الله الرضيع وقال لها: “اثبتي يا أماه، إنك على الحق”. فألقوا بها وبرضيعها في النار، وماتوا شهداء، أحياء عند الله.