إن الله قد اختص من خلقه ما يشاءُ برحمته فقال تعالى:{يختصُّ بِرَحمتِه من يشاءُ، والله ذُو الفضلِ العظِيم} (آل عمران 74)، وقال تعالى:{وربُّك يخلُقُ ما يشاءُ ويختارُ} (القصص 68).
وهذا الاصطفاء والاختصاص منه تبارك وتعالى قد يقع على الأمكنة أو الأزمنة أو الأشخاص، ومن اختصاص الله تبارك وتعالى للأزمنة ما اختصَّ به شهر رمضان من بين شهورِ السنةِ من الفضائلِ والخصائص، فهو شهرٌ عظيمٌ مبارك، شهرٌ امتلأت أيامه ولياليه بالرحمة والمغفرة والرضوان، والله سبحانه وتعالى قد رفعَ قدرَ هذا الشهر في كتابه الحكيم، وجعل الخير فيه كله، في أولِه وفي وسطِه وفي آخره، قال تعالى:{شهرُ رمَضَان الذي أُنزِلَ فيه القرآنُ هدىً للنَّاس وبيِّناتٍ من الهدى والفرقان}. (البقرة 158).
أخي القارئ يعد صيام شهر رمضان من فرائض الإسلام، بل هو كما جاء في السنة النبوية الشريفة أحدُ أركان الإيمان الإسلام الخمسة.. ولقد فرض في السنة الثانية للهجرة، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات، وكان الصيام مفروضاً على الأمم من قبلنا كما بين ربُّنا تبارك وتعالى في كتابه الحكيم فقال:{يأيُّها الذين أمنوا كتبَ عليكُمُ الصيامُ كما كُتبَ على الذين من قبلِكُم لعلَّكُم تتَّقونَ} (البقرة 183 ) قال الحسن البصري رحمه الله:”نعمْ، والله لقدْ كُتب الصِّيامُ على كلِّ أمةٍ قد خلَتْ كما كتبهُ اللهُ عليناَ شهراً كاملاً وأيَّاماً معدوداتٍ:عددا معلوماً”. (تفسير ابن كثير:ج/ص497).
وقد ثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومُ عاشوراءَ في الجاهليةِ في مكة، كما كانت تصومُه قريشٌ في الجاهلية، فلما قدم المدينةَ وجدَهم يصومونَه أيضاً، فصامه وأمر بصيامه.
ولقد كان هذا هو صيام المسلمين في العام الأول من الهجرة، فلما فرض الله صيامَ شهر رمضان على المسلمين في العام الثاني من الهجرة خيَّر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في صيام عاشوراء ولم يعزم عليهم قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:”كان رسولُ الله صلى عليه وسلم أمر بصيام يوم عاشوراءَ، فلماَّ فُرِضَ رمضانُ كان من شاءّ صامَ، ومن شاءَ أفْطَرَ”. (رواه البخاري ومسلم).
ثم إن صيام رمضان فُرض أولاً على وجه التخيير بين الإطعام والصيام، فمن أراد أن يصوم كان خيراً له، ومن أراد ألا يصوم أطعمَ عن كل يوم مسكيناً، ثم نقل هذا التخيير لعموم المسلمين إلى الحتم والإيجاب على البالغ القادر المقيم، وبقيَ الإطعام لمن لا يقدر عليه من شيخ كبير في السن أو امرأة حامل أو مرضع. وكانوا أول الأمر يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا نام الصائمُ قبل أن يَطعمَ حرُم عليه الطعام والشرابُ إلى الليلة القابلة، ثم نسخ هذا على ما استقر عليه الشرع إلى يوم القيامة.
أخرج البخاري رحمه الله عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:”إنَّ أصحابَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجلُ صائماً فحضرَ الإفطارُ فنامَ قبلَ أن يفطِرَ لمْ يأكمل ليلَتَهُ ولا يوْمَهُ حتىَّ يمسِيَ، وإنَّ قيسَ بنَ صِرْمَةَ الأنصاريَّ كان صائماً، فلمّا حضرَ الإفطارُ أتى امرَأَتهُ، فقالَ لهاَ:أَعِندَكِ طعامٌ؟ قالت:لا؛ ولكنْ أنطلِقُ فأطلُبُ لكَ، وكانَ يومهُ يعملُ فغلبتْهُ عيناهُ، فجاءِتْهُ، فلمَّا رأتْهُ قالت خيبَةً لكَ، فلمَّا انتصَفَ النَّهارُ غُشِيَ عليه، فذكر ذلك للنَّبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآيةُ:{أُحِلَّ لكُم ليلَةَ الصياَمِ الرَّفثُ إلى نسائِكُم) ففرحوا بها فرحاً شديداً، ونزلت:{وَكُلوُا واشربوا حتى يتبيَّنَ لكُمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسوَدِ من الفّجرِ، ثمَّ أتمُّوا الصِّيامَ إلىَ الَّليلِ} (البقرة 187). (رواه البخاري).
والصيام يجب على كل مسلم عاقل بالغ قادر مقيم صحيح، ولا يجب على الصغير، ويصح منه وله أجر الصيام، ولوالديه أجر التعليم والتربية والحث على الصيام فعن الرُّبيِّع بِنتِ مُعًوِّذ رضي الله عنها أنها قالت حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء:”أرسل النبيُّ صلى الله عليه وسلم غداةَ عاشوراءَ إلى قرىَ الأنصَار: من أصبحَ مُفطِرًا فلْيُتمَّ بقيَّةَ يومِهِ، ومنْ أصبحَ صائماً فليُصُمْ، فكنَّا نصُومُه ونصوِّمُ صبيَانَنَا، ونَجْعَلُ لهُمْ اللُّعبةَ من العِهْن، فإذا بكى أحَدُهُمْ على الطَّعَامِ أعطيناهُ ذاكَ حتَّى يكُونَ عندَ الإفْطارِ”. (رواه البخاري ومسلم).. ولا يجوز من حائض ولا نفساء..
ويبتدئ الصائم الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، لقوله تعالى:{وكُلُوا واشربُوا حتَّى يتبيَّنَ لَكُمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجرِ، ثمَّ أتِمُّوا الصّيَامَ إلَى الَّليلِ} ( البقرة 187) ثم يباح له الأكل والشرب والجماع طوال الليل، وعلى الصائم أن يحتاط لصيامه بالامتناع قبل عشرة دقائق أو أكثر من الأذان الثاني عن كل ما يفسد الصيام.