في ساحة البيت الذي غادره منذ 23 عاما، عاد وائل الجاغوب، الأسير المحرر ذو الثمانية والأربعين عاما، ليجلس وسط أهله وأحبته. التفوا حوله بشوق، يملأهم الحنين، أطفالهم يركضون من حوله، وبينهم من يلتقي بهم لأول مرة، فتتداخل الدهشة بالفرح، وكأن الزمن يعود ليجمع شتات السنين. يسترجع وائل ذكرى الليلة الأخيرة في الأسر، حيث كان عداد الساعات هو سيد المشهد. يقول: “كانت الليلة الأخيرة عبارة عن عد ساعات، كنا نعلم أن الوقت يمضي، لكن ثقله كان لا يحتمل، لم أتمكن من النوم سوى لساعات قليلة. وفاجأونا بإخراجنا مبكرا، حوالي الساعة الثانية والنصف صباحا، ولم يكن موعد الخروج كالمرة الأولى متأخرا.
ويتابع الجاغوب: “كنا نعيش الوقت بحدسنا فقط، دون ساعات تحدده، وشعرت بالوقت بطيئا حينها، وكنا نخترع حيلا للتحايل عليه ليمضي، ونحن أصبحنا محترفين في ذلك، فقد مارسنا هذه الحيل خاصة خلال الإضرابات الطويلة حين يكون الوقت ثقيلا إلى حد القسوة”. ويذكر وائل تلك اللحظة التي سألت فيها إحدى موظفات الصليب الأحمر لأسير آخر معه حين الإفراج عنهم: “هل توافق على نقلك في الحافلات إلى رام الله؟” فرد بابتسامة حملت وجع السنين وأملها: “هل أنا موافق؟! أنا أنتظر هذه الرحلة منذ 23 عاما، بالتأكيد موافق ونص وخمسة”.
الحلم يتحقّق.. أوّل ليلة في الحرّية
وعن الليلة الأولى بعد الحرية، يصفها وائل بأنها كانت حلما يمشي فيه أكثر من كونها واقعا. يقول: “الحرية هي ميلاد جديد، تلك الليلة كانت الأجمل في حياتي، شعرت وكأنني ولدت من جديد وتحوّل الحلم إلى واقع .. نولد أحرارا ولذلك نبقى نناضل للحصول على الحرية”. ويتابع وائل: الليلة الأولى لها معاني كثيرة، يمكن التأمل فيها بشكل جدي، كما أدركت حجم الوفاء الذي يحمله الشعب الفلسطيني للأسرى، وكم نستحق الحرية كشعب فلسطيني. يحمد وائل الجاغوب الله على عودته إلى أحضان عائلته وأحبته، مشيرا إلى أنه اكتشف أفرادا جددا في العائلة لم يعرفهم من قبل. يقول: “كنت أحلم باستمرار، وعلى مدار سنوات الأسر، أن أقضي ليلة واحدة معهم، واليوم تحقق الحلم، رأيت أحبتي وأشخاصا كثيرين كنت أشتاق إليهم بشدة.” يصف وائل أول ما قام به فور خروجه من السجن: “كنت أحلم منذ سنوات بأن أحتضن أمي. كانت دائما في مقدمة المشاركات في مسيرات دعم الأسرى، تحمل صوري بيديها، ولم تتوان يوما عن النضال من أجلي. احتضنت أمي، ثم احتضنت إخوتي وأخواتي، الذين هم أعز ما أملك في هذه الحياة... كان اللقاء بهم أمرا يعني لي الكثير، وأهم ما كان يشغلني طوال اللحظات الأخيرة في الأسر هو تحقيق هذا الحلم”. ويضيف: كنت أقول بيني وبين نفسي: اقترب اللقاء بأمي، ساعة وساعتان وثلاث.. وكنت أعد الساعات بشغف، وكان كل همي أن أجعل أمي تحقق حلمها باحتضاني وأن أعود إلى المنزل، كان لدي قناعة دائمة أنني سأعود يوما ما، والحمد لله عدت”.
نضـال الأسرى داخــــــل السّجون.. تحدّي الوقت
يشير الجاغوب إلى محاولات السجان الدائمة لجعل زمن الأسير الفلسطيني زمنا فارغا وعديم القيمة، لكن الأسير، بعزيمته وإرادته، يرفض الاستسلام لهذه المحاولات، ويسعى لتحويل وقته إلى شيء ذو معنى. يقول: “نحن نحاول استغلال الوقت وتنظيمه بشكل فعال، ونعلم أنفسنا أهمية النظام، ونجعل من الوقت المفروض علينا داخل السجن وقتا نمتلكه ونفرضه لأنفسنا، حيث ننظم حياتنا، يومنا، وحتى أنفسنا، وبهذه الطريقة، نحول السجن من أداة للقمع إلى مساحة للصمود والتعلم”. وداخل السجن أكمل الجاغوب درجة الماجستير في الشؤون الإسرائيلية بتقدير ممتاز، مستفيدا من الوقت والتحديات داخل الأسر لتطوير نفسه.
واقع السّجون بعد السّابع من أكتوبر 2023
يشير إلى أن الحكومة الصهيونية، بعد السابع من أكتوبر 2023، قررت توسيع نطاق حربها لتشمل السجون، حيث أصبح الفارق واضحا وجوهريا بين ما كان عليه الوضع قبل هذا التاريخ وما بعده. فقد أقدمت سلطات الاحتلال على تجريد الأسرى من كافة حقوقهم.
ويضيف أن قوات الاحتلال، في تعاملها مع الأسرى، لم تكتف بانتهاك القانون الدولي، بل تجاوزت حتى القوانين التي وضعتها بنفسها. إذ تحول السجان الإسرائيلي، الذي كان يصنف نفسه سابقا كمنفذ للقانون، إلى مشرع ينشئ قانونه الخاص ويطبقه. وبهذا، أصبح لكل سجان قانونه الخاص، يمنحه مطلق الحرية في التعامل مع الأسير الفلسطيني، بدءا من الإهانة والضرب وصولا إلى القتل.
أم وائـل.. رحلـة الصّبر والنضال
تجلس بجانب وائل، والدته التي لم تتوان يوما عن المشاركة في مسيرات الأسرى، تستذكر معاناة الزيارات قائلة: “كان المنع الأمني عقابا لنا كأهل، ليس فقط لوائل، وكانوا يمنعوننا من زيارته، حتى الأطفال كانوا يزورون إخوته ضمن كفالات ومع أشخاص آخرين، وكانت الزيارات رحلة معاناة حقيقية، لكنها كانت الأمل الوحيد لرؤية وائل ولو للحظات قليلة”. وتتابع بسعادة غامرة: “تلقيت خبر الإفراج عنه وكأنه أجمل خبر سمعته في حياتي، وبدأت على الفور بالاتصال بالجميع لأستفسر وأتأكد من الخبر، والحمد لله الذي أتم نعمته علينا وأفرج عن ابني، متمنية الإفراج القريب عن جميع الأسرى والأسيرات”. ومنذ الصباح الباكر، بدأت أم وائل بإعداد المقلوبة والصواني، والأطباق التي يحبها وائل، لكن رغم لأن تراه يأكل من تحت يديها، إلا أنه تناول كمية صغيرة فقط بسبب وضعه الصحي بعد الأسر. وتضيف: “قلبي يتمنى أن أراه يستعيد عافيته ويستمتع بكل ما حرم منه”. وتتابع: “أنا لم أتوقف عن المشاركة في مسيرات دعم الأسرى يوما، وكان هذا واجبي تجاه وائل وكل الأسرى، وصحيح أنني خلال هذه الفترة مشغولة باستقبال الزوار، لكنني سأعود قريبا للمشاركة في المسيرات، ولن أتوقف أبدا عن دعم قضيتهم”.
الإيمان بالحرّية.. الأمل لكل عائلة فلسطينيـة
وفي نهاية اللقاء، يقول الجاغوب: نحن، كأسرى محررين، قد نكون مؤهلين للعب دور محوري أمام شعبنا في العمل على خلق حالة وحدوية وطنية حقيقية، لأننا كشعب نفتقر إلى هذه الحركة المركزية، وإن لم نستطع بناء هذه الحالة الوحدوية الوطنية خلال فترة قصيرة، فإننا، في تقديري، نكون قد فشلنا في أداء المهمة، وأعتقد أن على كل فرد أن يدرك مبرر وجوده ويعرف ما المطلوب منه وما يقع على عاتقه. ويضيف: يجب ألا نكتفي فقط بتقييم الواقع، بل علينا أن نسعى لإيجاد حلول فعالة، ونحن، كشعب فلسطيني، يجب أن نكون أصحاب القرار والسيادة على أنفسنا.
ويختتم الجاغوب: “لدي إيمان مطلق بأن كل عائلة فلسطينية لها أسير ستفرح قريبا بعودته إليها، وأن كل أم فلسطينية ستحتضن ابنها بين ذراعيها قريبا بإذن الله. خرج وائل من سجون الاحتلال، لكن قلبه وعقله بقيا مع رفاقه في الأسر، متمنيا لهم الحرية القريبة وعودة دافئة إلى أحضان أهاليهم وأحبتهم.