سؤال الحـرّية في زمن تشظــّي المعنى

بقلم: جواد العقاد

كيف للعالم الذي لم يفهم لغة الدم، والذي يرى مشاهد قاسية كُتبت بالدمِ في غزة فعلياً، أن يفهم لغة الحبر؟ وكيف للكلمات أن تعبّر عن واقع قاسٍ، وآلام تُكتب بأشلاء الأجساد وشظايا الأرواح في زمنٍ تخون فيه اللغات المعنى، فنشعر بأنّ الكتابة خيانة للواقع وقسوته، وعلينا فعل شيء آخر تماماً.

 في هذا الزمن الذي تفقد فيه الكلمات قدرتها على التعبير عن حجم المعاناة، تصبح الكتابة رفيقاً للإنسان في مواجهة عالم ضاع فيه المعنى والجوهر، وتصبح محاولات الإنسان لنقل آلامه وأحلامه في كلمات، أحياناً، محاكاة وهمية لعالمٍ دموي لا يمكن للمفردات أن تحيط به. وتظل الكتابة، على الرغم من ذلك، شكلاً من أشكال الحرّية؛ فهي عملية تحرُّر من الواقع، وفي الوقت نفسه، تخوض معركة ضد الواقع، وتسعى لتغييره، وبهذا المعنى تكون عملية ثورية.
أنا أكتب تحت القصف، وحولي الرصاص والقذائف، ومحاصَر بالموت من كل الجهات. وفي هذا السياق، تمنحني الكتابة فرصة لإعادة النظر في مفهوم الحرّية؛ إذ إنّها تعطيني مساحة أستطيع عن طريقها ممارسة إنسانيتي، والتعبير عن أوضاعي القاسية التي أعيشها، ورفْض كل شيء غير إنساني وغير أخلاقي. إنّها ليست فقط وسيلة للتوثيق هنا، بل أيضاً إعلان رفضٍ للموت الذي يحيط بي من كل مكان وزمان.
وعندما نتأمّل اللحظة الآنية، يمكننا أن نلاحظ كيف تساهم الكتابة في منْح الإنسان شعوراً بالحرّية والأمان اللحظي، ولذلك، فهي ليست فعلاً هامشياً في حياتي، إنما جوهر رؤيتي للحياة؛ فعن طريقها أعبّر عن ذاتي، وأعكس تجربتي في هذا العالم المملوء بالقسوة، وبالمقدار نفسه هي أداة أواجه بها العالم، إذ تصبح وسيلة لترميم تلك الشروخ وإخماد الانفجارات الكبرى التي تحدث حولنا وفي دواخلنا.
كما تستطيع، بصفتها أحد تشكيلات الثقافة أن تغير الوعي بالتدريج، فهي جزء من تكوين الحضارات. وعندما أقول إن الكتابة عملية وجودية، فإن ذلك ليس من باب التهويل، إنما هو تعبير حقيقي عن دور الكلمة في المحافظة على الوجود.
ولو تأمّلنا التاريخ، لوجدنا أنّ كل الشعوب بلا استثناء تحرص دائماً على تدوين تاريخها، وجميع الحضارات تقوم على أدبيات كبرى؛ فالكتابة أداة بقاء ومحافظة على الوجود، ويمكن أن تكون كذلك مجازاً على المستوى الفردي، لكن لها أهمية حضارية جماعية كبرى.
أنا محاصَر ولا أستطيع فعل شيء، وحين أكتب أشعر بالحرّية؛ فالكلمات تمنحني قدرة على تحرير ذاتي من الخوف واليأس موقتاً.
صحيح أنّ الكلمة تؤدّي مفعولها بصورة متدرجة، لكن عندما نكتب ولا نشعر بأي تغيير في واقع ثقيل، نشعر باليأس، وكأنّنا نريد للكلمة أن تؤدي مفعول الرصاصة في زمن غابت فيه قيم الإنسانية والعدالة، وتصبح الكتابة في هذا السياق الوسيلة الوحيدة التي أشعر عن طريقها بأنّني حُر، لذلك لا أضع لنفسي شروطاً قبل الكتابة كي يولد النص بصورة طبيعية، إنما أترك اللغة تحلّق في ملكوت الذات، وتتورط في وجعها، الذي هو وجع كل المقهورين والمهمشين.
نحن نكتب الآن لأنّنا مهمّشون، وعن طريق ذلك أبحث عن حريتي ودفاعاً عن دمي المهدور أمام الموت الشرس الذي يواجهني كمغارة مفتوحة على المجهول. أكتب لأنّني لا أملك ضوءاً أقد به عتمة روحي. في الحرب، تتخذ الحرّية مفهوماً أكثر التباساً وتعقيداً، ففي الوقت الذي يكون فيه الإنسان أسير التفاصيل الإنسانية الحياتية، والخوف، واليأس، والموت، يصبح أكثر رغبة في الخلاص وطوقاً للحرّية.
وعلى المستوى الفردي والجمعي، فإنّ الكتابة تصبح أحد منطلقات الحرّية وإحدى أدواتها. فهي، بصفتها شكلاً من أشكال الفنون، تساعد الكاتب في التعبير عن همومه وواقعه، وردّات أفعاله النفسية والعاطفية. فلا تقتصر الكتابة الجيدة على همها الفني والجمالي فقط، بل أيضاً تتضمن هماً فكرياً، وثقافياً، وسياسياً؛ إذ تؤسّس لوعي جمعي بالحرّية، وهذا يعني، بصورة ما، أنها تصبح مقاومة ضد الواقع وما فيه من أخطار سياسية، أو استعمارية، أو اجتماعية.
وبصفتها عملية تحرُّر وحرّية فكرية، فهي تساهم في تفكيك الواقع المظلم، والسعي نحو الخلاص. ما يعيشه الإنسان نفسياً وعاطفياً وجسدياً في الحرب يتجسد في الكتابة عبر التراكيب والمفردات؛ إذ نلاحظ في شِعر الحرب ظهور مفردات كجدار الصوت، والغارة، والدم، والأشلاء. كما نلاحظ تغيُراً في النَفَس الشِعري والشكل الفني، إذ أصبحت النصوص أكثر انفتاحاً على كل الأشكال، رغبةً في الحرّية والخلاص والانعتاق. إذاً، فبعد اختبار المعاناة القاسية، يعيد الكاتب إنتاج حياته أو معاناته باستخدام اللغة، وبالتالي، فإن النص الأدبي يجسد تراجيديا الإنسان، ولا بد من أن يتخذ ملامح جديدة تعكس الواقع الجديد الذي يعيشه الكاتب.
والكتابة بصفتها بحثاً دائماً عن الحرّية، فهي لا تفسر العالم فحسب، بل أيضاً تسعى لتغييره. فالنص الجيد لا يقتنع بدور الراصد المسجل للحدث، إنما يطمح إلى تغيير العالم.
ففي الهزيمة أو النصر، تؤدّي الكتابة دوراً مهماً في تشكيل الذاكرة الجماعية للأمة، فهي تربط السياقات الاجتماعية، بالسياسية، والثقافية. أتذكّر إحدى الليالي حين قررنا الخروج تحت القصف العشوائي، وكان كل شيء حولي مظلماً ومخيفاً، والموت يحلق فوق رؤوسنا، والطائرات والمدافع لا تهدأ. كان الخروج قراراً بعد العناد، إذ تمسّكنا بالبقاء حتى اللحظة الأخيرة، لكننا وجدنا أنفسنا مضطرين إلى الرحيل، فمشيت مع جدتي في عتمةٍ خانقة، وكنا نخشى حتى أن نشعل ضوء الهاتف خوفاً من أن يفضحنا بصيصه الصغير أمام عيون الموت.
مشيت وكان الخوف يتغلغل في عظامي، وكأنّ كل خطوة أشبه بمغامرة غير محسوبة، ولا تعرف إن كانت ستقودك إلى النجاة أم إلى الفقدان الأبدي.
وحين وصلنا أخيراً إلى منطقة أقل تهديداً، شعرت بارتياح موقت، لكنه سرعان ما تحول إلى سؤال كبير: كيف أكتب هذا المشهد؟ وكيف يمكن للكلمات أن تحمل هذا الكم من الرعب والرهبة؟ إذاً، فالكتابة ليست كلمات على الورق، إنما هي الصدى الذي يجسد معاناة الإنسانية في أشد لحظاتها قسوة، إذ تمنحنا أملاً في التغيير، وتظل الأداة الوحيدة التي نستطيع عن طريقها مواجهة العدم والخراب وكل محاولات النقيض لإنهاء وجودنا. (اللوحة لخالد جرادة، أكريليك على قماش، 2021).

 

رأيك في الموضوع

« فيفري 2025 »
الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد
          1 2
3 4 5 6 7 8 9
10 11 12 13 14 15 16
17 18 19 20 21 22 23
24 25 26 27 28    

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19706

العدد 19706

السبت 22 فيفري 2025
العدد 19705

العدد 19705

الخميس 20 فيفري 2025
العدد 19704

العدد 19704

الأربعاء 19 فيفري 2025
العدد 19703

العدد 19703

الثلاثاء 18 فيفري 2025