شوكة في قلب العالم، وأكبر تهديد للسلام العالمي، وأبشع جريمة في العصر الحديث، بشهادة جمهور أوروبا البعيد عن الاستهداف المباشر من آثارها المباشرة على الأقلّ، فكيف لو كان مثلنا ومثلَ آبائنا وأجدادنا ومن سيأتي بعدنا، شهوداً شهداء، أمواتاً وأحياء، على المواصلة الملِحّة لقناعة الجريمة والإصرار عليها والاقتناع بها.
شوكة هي في قلوبنا، شوكة لاشرعية، إنْ صحَّ التعبيرُ الذي يوحي بأنّ هناك إمكانيّة لتصوّرِ شوكةٍ في القلب شرعيّة في هذا المعمار البشري البديع والسيرورة الغريبة في العالم، ذلك الذي يلطّخ وجهَ الورد ويكادُ يصلُ إلى درجة الكابوس، كأنّه حلمٌ، وأكادُ أجزمُ أنّ الآتين فيما هو آتٍ من أيّام سيصدّقون بصعوبةٍ الروايةَ الأسطوريّة للمؤرّخين الذين سيخطّون سفرَ نهايةِ الإمبراطوريّة الصهيونية، في الأعمال غير الكاملة لسلسلة “نهاية إمبراطوريّات” على غرار “نهايةِ الإمبراطوريّة الرومانيّة”، هي شوكةٌ في قلب العالم، وهي تخضعُ للسنن الكونيّة التاريخيّة وليست استثناءً منها، وهي الآن في خدَرِ علوِّها، وسُكْرِ تجليها،...وفسقوا فيها، “فحقَّ عليها القول”، فماذا يثنيها عن التوسّع والانتشار، وبناء المستوطنات.
سيكون هذا ضدَّ منطق قوانين التاريخ والإنسان، إذ لو فعلت ذلك وهي على قمّةِ هرمِ الاستعلاء وهي لا ترى دونَها إلا أغياراً جوييم خدماً للمستوطنين الأوّلين والحاليين والمحتَملين، ولا ترى تحتها إلّا مَنْ هم تحتَها، لو فعلتْ ذلك وتوقفَتْ لحظةً عن مواصلة الجريمة، لاستفاقت برهةً لوصفِ حالتِها، ولكانَ عليها حينئذٍ أنْ تُلغيَ كلَّ ذاتها، لأنّها في نفس تلك البرهة لا تكون، فهي والجريمة سِيّانْ، شيءٌ واحدٌ لا شيئانْ، ونهايةُ أحدِهما يعني أنْ ينتهيَ الاثنانْ.
قدرُها أن تزرعَ ذاتها، وتغرزَ رأسَها، شوكةً شوكة، منتصبةً صاخبة، جدراناً وبيوتاً غير آمنين، فالشوكةُ إنْ انثنتْ فقدَتْ “شوكيّتَها”، والجريمةُ إنْ هجعت ونامتْ فقد تابتْ وانهارت، من هنا كلُّ هذا الاستنفار والاستفزاز مع كلِّ رائحة دعوةٍ للتوقّف عن بناء المستوطنات.
ومن هنا كلُّ هذا الاندفاع لتوريط الذات أكثرَ في الذات، كأنّها تخشى أن تفقدَ ملامحَها، فتسنَّ التشريعاتِ لتُحصِّنَ ذاتها من ذاتها، ولتضمنَ ألا تنهارَ في لحظة الاضطرار، فيكون أنّه لابدَّ مِن استفتاءٍ عامٍّ للبتِّ في موضوع الانسحاب من الجولان، ويكون إغراقُ القدس بأشواك المستوطنين، ذلك أنّ الجريمة في جوهرها هشَّةٌ ومتوارية، بطبعها وجبلّتها، التي تخضعُ رغماً عنها لسنن القهّار.
ومهما اتّزرَتْ بالقوانين والنار، تظلّ رعديدةً مسكونةً بالنهاية، تراها رأيَ العين، دون غيرِها من العالمين، هي والمؤمنون، هي..بما أنّها تتحسّسُ حسَّها، وتفوحُ بفيحها، وتطوي على ذاتها، والمؤمنون..بتلقائية البصر والبصيرة، بما أنّهم جدلُ الجريمة وانزياحُها واستحقاقُ عقابها، بما أنّهم حقُّ الحقِّ الذي استحقّوه، وهم شهودُه وطالبوه، وهم وقودُه وعينُ يقينه فيما كابدوه من أشواك المحن وحكمة السنن.
ويكون أنْ تأخذها العزّة بالجريمة، وتسقط في المدار، فهاجس النهاية وتكريس الحكاية يستدعي مزيداً منها خمراً يقفز خلفه ويحرقُ الحيَّ من نبات الفلسطينيين ويضعُ شوكَه على حدود البحر الميت، ويعبرُ النهر المقدّس يشترِ أراضيَ هناك في حركةٍ تطويقيةٍ شرقَه، لاحتمال أنْ تخامرَ النفْسَ شبهةٌ فيما هو غربَه، الشوكةُ تريد تأمين الشوكة، في ديناميةٍ تستحثُّ ذاتها وتستدعي هاجسَها في توالدٍ لا ينتهي إلا بانتهائها، حيثُ لا يأمن الخوفُ إلّا بتكاثره ولا يضيءُ الظلام.
فالوجه الآخر للتأكيد دوماً أنّ القدس هي عاصمتهم الأبدية هو يقينهم أنّها ليست كذلك ولن تكون، وإنّما هو رهاب اليقظة، صراخ الخوف، وجسد الوهم، أمّا هوس عبرنة الأسماء فليس إلّا محاولة لتوسّل الوهم وخداع المخيال، واختلاق عجلٍ افتراضيّ في فضاء الإنترنيت لعلّهم يخدعون بشراً افتراضيين.
لأنّهم حتى أنفسهم في هذه لا يخدعون، وهم يركضون باجتهادهم وجدِّهم بحكم نفس السنن والقوانين إلى السجن الأخير بعد تجربة ستين عاماً لتكتملَ دائرةُ التكوين إلى استئناف النقطة الأولى “الجيتو الأخير” يدفنون أنفسهم فيه، بعد أن لم تحتملْهم الشمسُ ولا الفضاء، ولم يحتملوا هم الضياء، فقد حان وقت الانتحار والانطواء، وليكنْ الجيتو الأخير في قمّة الاقتدار على النفير، وليحتملْ فكرةَ يهودية الجيتو ونقاءه، وليكنْ قادراً على البطش من بعيد، ومحاطاً بما تُحاطُ به السجونُ من الأسلاك والجدران والأوهام والأشواك، ومترعاً بها وبنا، فقد نسُوا أنّنا باقةُ شوكٍ من هنا، لم يزرعونا، وأنّنا حين يَكتمِلُ المَعاد،..يَحِقّ القولُ..نقذفهم بنا.