روح الـــــكــــــيــــــــان

بقلم: علي شكشك

 

 منذ اليوم الأول لها، بل مذ كانت مشروعا متخيَّلاً فإنّ الغزاة نهجوا طريقين، نهب الأرض وطرد أصحاب البلاد، وكانت الأداة الفاعلة هي المستوطنين، ذلك أنّ المسألة كلّها هي استيطانُ أرضٍ غريبةٍ عليهم، وأنّ الأمر في جوهره ليس إلا الاستيطان.


هو الترجمة العملية التي تنجز الواقعَ في السياق، وتحوّل النظرية إلى مادة ٍ ملموسة، يمكن أن ينبجس منها ويتفاعل حولها مناخٌ يؤسّس للمشروع، فماذا كان يمكن أن يكون المشروع الصهيوني لو لم يعتمد الاستيطان، حتى لو حشد لمقولاته كلَّ أنواع التأييد والمقولات التلمودية، وذرف ما استطاع من دموعٍ وبكائيات أو أنشد من أشعار، فارتبطت لذلك أداةُ المشروع بالمشروع منذ اليوم الأول ارتباطاً شرطياً، بحيث أصبح تشكيلُه واستمرارُه ومصيرُه مرتبطاً بأداته أيّ الاستيطان، وأصبحا في الوعي الصهيوني روحاً وجسدا، بحيث أنّ توقّفه سيعني موتاً في المتخيَّل قبل أن يُترجم بتداعياته إلى نهاية الكيان، إذ كيف حين تفارقُه الروحُ يبقى البنيان؟
هذا مع الأخذ في الحسبان العوامل التي تجعل من هذا الأمر ضرورة ملحّة وحاجةً حيوية لمواجهة خصوصية الغزاة وخصوصية البلاد وأصحاب البلاد، الذين يتكاثرون هنا منذ آلاف السنين ويتجذّرون بذريتهم ويعانقون فيها طقوسهم ومقدَّسَهم، وقد رتّلوا اسم كنعان في مختلف الأسفار، ويعرفون أنّ التوقّف برهةً عن الغزو والاستيطان يعني أن تنبتَ الأرض بأهلها، وتلتفَّ عليهم أعشابُها وتخنقَهم تراتيلها المنبجسة من رائحة التاريخ والمرأةِ الكنعانية التي ركضت وراء المسيح.
 كما أنّهم تطاردهم فكرةُ أنّهم طارئون وعابرون بشهادة اسمهم الذي به يتسمّون، وبشهادة قولهم “لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون”، في إشارةٍ ربّما إلى عدم قابليتهم للتعايش مع أيّ شعبٍ آخر، الأمر الذي تجلّى بعد ذلك في التاريخ وتجلّى قبل ذلك في وادي النيل، إضافةً إلى الرُّهاب الذي ينتابهم كلّما مرّ بهم في الأسفار لفظُ العماليق، فكان لابدّ من سلوك كافة السبل “لإخراجهم منها”، حتى يدخلوا فيها، وكان لابدّ من كلّ هذا الجنون الاستيطاني وهذه السيريالية التي يتفنّنُ بها المستوطنون لتحويل حياتنا إلى جحيم.
كان لابدّ من الاستيطان الرجيم، شرطاً لاستمرار وبقاء المشروع، فهو اللبنة الأولى وهو اللبنة الأخيرة، إذ أنّه ليست فقط “حدودهم” هي التي تكون عند آخر مستوطنة يبنونها، وإنّما أيضاً أجلهم يكون هناك، ولذا فهم يعرفونها في العميق من لاوعيهم أنّ الاستيطان هو روح “كيانهم”، وأنّ تلّ أبيب مثلها مثل القدس كما يقولون في الاستيطان، هي كذلك في معنى الأشياء.
 فلا شرعية لأيّ استيطان في أيّهما، ولا فرق في عميق الروح بين هذا وذاك إلاّ في تاريخ الغزو والبناء، وهم يعرفون معنى توقّف الاستيطان إنْ أُبرمَ أيُّ “سلام”، ولذا فهم لا يتجنّبون فقط “السلام” وإنّما يتجنّبون أيضاً أجلَهم، عند المستوطنة الأخيرة، وقد يفسِّرُ هذا فيما يفسِّرُ رفضَهم الإغراءَ الأمريكيّ الأسطوريَّ مقابلَ وقفِ الاستيطان ولو لفترةٍ محدودةٍ في الزمان، إذ قد يَرشح في الوعي الجمعيِّ جرّاء ذلك إمكانيةُ العيش بدون ذلك، ممّا سيعني بالتأكيد التأسيسَ لمرحلة النهاية، فكيف سيستمرّ - وقد تأسّس عليها - بدون نهب، وهل يعيش كيانٌ بلا روح، أعني كيان الاستيطان بدون روح الاستيطان.

 

رأيك في الموضوع

« نوفمبر 2024 »
الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد
        1 2 3
4 5 6 7 8 9 10
11 12 13 14 15 16 17
18 19 20 21 22 23 24
25 26 27 28 29 30  

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024