أبــــولــــو يــــلــــتــــقــــي حــــبــــيـــبـــتـــه أفــــروديــــت في غـــــــزّة

بقلم: عيسى قراقع

 

وصل أبولو إلى قطاع غزّة، قطع البحر المتوسط وتسلّق الأمواج وقاوم الرياح والعواصف، معلناً أنّ العالم كله قد تخلى عن غزة، مدينة الحضارات القديمة التي بنيت قبل أكثر من 3000 عام قبل الميلاد، تركها هذا العالم وحدها تباد، وتحاصر بالمجازر والنيران والموت على يد الآلة العسكرية الصهيونية.

أبولو بنى له خيمة في رفح، وقرّر أن يبحث عن حبيبته أفروديت المتواجدة في غزة، أن يضيئ معها شمس غزة التي أطفأتها القنابل والصواريخ بالجوع والنزوح والأوبئة المتفشية
حبيبتي أفروديت
وصلت غزّة
بحثت عنك في الغيب واليقين
هل قتلوك ورموك في حفرة؟
هل سيّجوا على روحك مقبرة؟
أبولو خرج من أسطورته وأعلن أن الأسطورة الحقيقية هنا في غزة، الناس الذين يتصدّون للقتل والتهجير والانسحاق بإرادة ملحمية لم تحدث في عصر من عصور البطولات الخارقة، فلم يبق أمام غزة سوى الأسطورة بعد أن فشلت كل الوسائل في وقف هذه الإبادة الدمويّة البشعة، لا مكان لي إلا هنا، في غزة المدينة الكنعانيّة القديمة، فهي أكثر من يدرك أن الأمم حكايات وأساطير، وهي القادرة على حماية الذات والهويّة الجماعية، الأساطير التي تغير هذه الوحشية الصهيونية غير المسبوقة، الأسطورة هي جسر التواصل بين الأرض والطبيعة والسماء، غزّة بحاجة إلى أبولو للتعامل مع الخوف والقلق والرعب والغطرسة الصهيونيّة، غزّة بحاجة إلى من يعطي معنى لهذه الكارثة الإنسانية والمأساة، إلى من ينقذها من المحو والنسيان والخراب، غزّة تحتاج إلى قوة فائقة لمواجهة هذه الكائنات الصهيونيّة المتوحّشة الشهيّة للقتل والدماء
حبيبتي أفروديت
هنا في بيت لاهيا
مجزرة تتلوها مجزرة
نظرت إلى كل الجثث
الأجسام تلتهب
هذه ليست حرباً
إنّها استعمار للمخيلة
ضج التّحالف الأمريكي الصهيوني الأوروبي من وجود أبولو في غزة، لقد تحرّر من الجمود في المتاحف الغربية التي حوّلته إلى مجرد فرجة للسياح، لقد دمّروا الحضارات الإنسانية وحوّلوا أنقاضها إلى أيقونات وتحف بما في ذلك الجماجم البشرية، حشروه في الماضي دون أن يعترفوا بأنّهم القتلة وأنه الضحية، ففي وسع الأسطورة أن تنجو من قصف الطائرات، وأن تتابع نموّها في وجدان شعب يحولها إلى طاقة، ومنذ السابع من أكتوبر 2023، يبحث مجرمو الحرب عن أبولو، وها هو يتنقل من مخيم إلى مخيم، ومن حارة إلى حارة، يقفز بين مجزرة ومجزرة، غزة تحتاج إلى الأمل بالبقاء والحياة والمساندة، يقول أبولو وهو يزيح الإسمنت والحجارة وأكوام الجثث التي غطت الشمس وحبست الماء والهواء.
حبيبتي أفروديت
الموت في جباليا يكتب ويمحو
أسنان السّماء تنطبق على الأرض
دم يروي
وأجسام تمتص رحيق الرّمل والأسفلت
أنا أبولو غزّة وليس أبولو اليونان والعولمة وزيف الأقنعة، أبولو الفلسطيني، هدمت معابد الحرب في جبال الألب، لأنها تشبه الدمويين الصّهاينة، نزلت عن الجبل ووصلت غزة المحاصرة، وأنا أكثر من يعرف أن دولة الصهاينة أقيمت على خرافة وأسطورة، وأنا من يعرف أن فلسطين ليست أرضاً بوراً ولم تقم من الخيال والأراجيف، إنّها أرض من دم ولحم وتراب وثقافة ونبوءة، فشكراً للصياد الغزاوي الذي ساعدني على دخول غزّة، بنى لي بيتاً ومتحفاً واحتفالا ومدرسة في الفن والموسيقى والطب والرماية والفلسفة والمقاومة.

حبيبتي أفروديت
في غزّة كل شيء ينتهي
وسرعان ما يبدأ
حبر يسيل من الجثث
ماء في القصيدة
الحياة هنا مبدأ

أنا في غزّة، أسمعها تنادي على الجميع، الأمم المتحدة ومجلس الأمن والصليب الأحمر الدولي، تنادي على المحاكم الدولية ومنظمة الصحة العالمية، تنادي على الضمير الإنساني والقانون الدولي، لم يستجب أحداً، لم تترجم الصور إلى كلام وغضب، إنّ هذا العجز هو شكل آخر للإبادة، اختلط المسرح الدموي بكل ما هو مثير للدهشة، هنا جحيم متعدّد المسالك، متعدّد الأبواب، طواغيت في كل الإتجاهات، غزّة تحترق وتذبح وتغرق في دمها، تموت اللغة والثقافة الإنسانية، القيم والإبداع، إنّها خطة الجنرالات، محو الجسم والذاكرة.
حبيبتي أفروديت
لا أحد يغضب في هذا العالم
لأنّ الغضب يزيل الخوف
غزّة تحتضر بين الصّاروخ والسيف
لقد قتلوا كل الأدباء والمؤرّخين والشّعراء والفنانين في غزّة، أحرقوا الأرشيفات والسجلات والتدوينات والذكريات، صار التاريخ جثة محروقة، نهبوا ودمّروا مملكتي الثقافية في غزّة، دمّروا 208 موقعاً ثقافياً وتراثياً، قتلوا 130 عالماً وأُستاذاً جامعياً، قتلوا 11 ألف طالب ومدير مدرسة، قتلوا 50 أديباً وشاعراً وروائياً وفناناً، قتلوا 175 صحفياً وإعلامياً، آلاف المعتقلين يساقون عراة ومعذبين الى معسكرات اعتقال مجهولة، يطاردني الموت من مكان الى مكان، الجثث في الشوارع وتحت الأنقاض، الناس تحمل الأشلاء في أكياس، الموتى، يتناثرون ممزقين وبلا قبور، غزة القديمة الحديثة تموت، يختنق التاريخ، تتقطع أنفاس الإلياذة والأوديسة أمام لوحة الفنانة محاسن الخطيب التي استشهدت وهي ترسم الناس محترقين، تشتعل النيران في أبدانهم في جباليا وبيت لاهيا، عنف منهجي هائج ضد الأجساد والممتلكات الثقافية، تفريغ الأرض من أجسادنا ومن أرواحنا، تلاحقنا الغارات الى المقبرة، لا صوت للجوامع، لا صوت للكنائس، وتلك الراهبة دخلت الصدى، علقت الصليب على نجمة تصرخ في المدى.
حبيبتي أفروديت
أكان على غزّة أن تحترق
حتى نصدق حكايتها
لم ينجُ المؤرّخ والوثيقة
الشّهود والجسد والورق والحقيقة
أين أنت يا أفروديت؟ غزّة بحاجة إلى الحب والجمال، حرب الإبادة المستمرة شوهت غزة وأعادت تركيب المكان على مقاس جنازير دباباتها التي تحرث لحمنا، مسحتها عن الخارطة، أسقطت من قلبها كل الحضارات الإنسانية، أكثر من ألف عائلة أبيدت ومسحت من السجل المدني، الأسطورة هي من تحرس الماضي من جنون الحاضر وتعيد الموت الى الحياة، فتّشت عنك يا حبيبتي في كل المواقع، في المتاحف والمكتبات والأسواق والمؤسّسات الثقافية، في المسارح والمقامات والمساجد والكنائس، في البيوت الأثرية القديمة، في المدارس والجامعات، في المستشفيات والقبور العتيقة، سألت عنك الشافعي وابن سينا وابن رشد والإدريسي وأفلاطون، فتّشت عنك في السجلات والأرشيفات والمخطوطات والأغاني، لم أجدك يا حبيبتي، كل شيء تدمّر وتحوّل إلى رماد.

حبيبتي أفروديت
نموت ولا نسمع صراخنا
لم يبق شيء من وشم الهويّة
نقرأ في حشرجات الفراغ
حكايتنا الأخيرة
للآخرين من بعدنا
غزّة تحتاج الى الحب والضوء، هذا الحب الذي لعب دوراً هاماً في الحضارات القديمة، حتى كل البشر قدّسوا الحب وجعلوا منه آلهة يتقربون إليها، فلنقاوم السادية الصهيونية بالحب، الكراهية والعنصرية، الأمراض الفاشيّة التي تنتج جنوداً مرضى وجلادين ومجرمين تفجّرت من أعماقهم النشوات والغرائز الوحشية المكبوتة، الإحتلال لا يعرف الحب، يمارس البربرية والهمجيّة وينزع الصفة الإنسانية عن الآخرين، والآن يا أفروديت. يأتي دور الأسطورة، أن نغيّر الأقدار في غزة، فلا خيار أمامنا ولا خيار أمام أهل غزة إلا إعادة بناء غزتهم، هنا أرض صخرتهم الأولى وجدّهم الأول، هنا البحر والملجأ، أهل غزة ثابتون على الأرض لا يستطيعون الإقامة في الشظايا ولا في الغبار.
حبيبتي أفروديت
الحب هو الحياة
المجازر على الشاشة وعلى الهواء
تقتحم كل غرفة نوم وكل دماغ
الكل يبكي

ولكن لم يساعدهم أحد على النّجاة
أنا أبولو غزّة، هبطت من الأسطورة والخيال، بعد أن فشل البشر في هذا العالم من إنقاذ غزّة، أُعلن أنّ الحرب الصهيونية على غزة هي حرب على البشرية والثقافة الإنسانية جمعاء، حرب على الفنون والآداب والكتاب والعقل والرّواية، إنّها الإبادة المعرفية والثقافية الممنهجة، حرب للإهلاك والإفناء، ولم يصل أحد لإنقاذ موروث غزة وكنوزها الثقافية، لا اليونسكو، ولا قانون لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في وقت النّزاع المسلّح، لم نجدهم كما يقولون في الخط الأمامي للدّفاع عن التراث الثقافي للشعب الفلسطيني، لا مبالاة مريبة، لم يفعلوا شيئاً حتى عندما سرقوا أفروديت وأطلقوا اسمها على حقل الغاز في غزة.
حبيبتي أفروديت
هنا فراغ
دوائر من أحزمة الموت
يفترسون السّياسة
وجسد اللغة
وجسد الوعي
حتى صار الصّعود إلى السماء وسيلة للكتابة
التقى أبولو بحبيبته أفروديت في موقع تل إم عامر داخل دير القديس هيلاريون أقدم المواقع التاريخية في الشرق الأوسط، لقد تهدم الدير بفعل القصف والقنابل، لكن أفروديت أمسكت بنبض الحياة وعانقت أبولو، تلاحمت الشمس مع الحب والنور في فضاء غزة، في هذا العناق المقدس أعادت غزة بناء المشهد، أطفال ينفجرون من الشظايا والخرائب، يجرون قضبان الحديد وأطرافهم المبتورة ليبنوا بيوتاً من أجسادهم، غزة العنيدة التي تخرج من المجازر لتدخل في حياتها المتجددة، المطران هيلاريون القى بخشبة الصليب على الطائرة المغيرة حتى غمرته الصلاة

حبيبتي أفروديت
خذي دمي
وأعطني دمك
سأمضي بقية حياتي بين يديك في غزّة
الشّمس في غزّة تسير على أعناق الشّهداء
الشّهداء لا يسيرون على أقدامهم
يطيرون
ولهم أجنحة مما بعد الملائكة

 

رأيك في الموضوع

« نوفمبر 2024 »
الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد
        1 2 3
4 5 6 7 8 9 10
11 12 13 14 15 16 17
18 19 20 21 22 23 24
25 26 27 28 29 30  

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024