في غزَّةَ التي لنا..يقفُ الطفلُ يمتشقُ الأماني ويردّد:
”أنا ما هنتُ في وطني
ولا صغرتُ أكتافي
وقفتُ بوجهِ ظُلامي
يتيمًا، عاريًا، حافي
حملتُ دمي على كفي
وما نكستُ أعلامي”
كان يرجو يا توفيق زياد ألا يهون، ورُبَّ “واعُمَراه” ملأت أفواهَ الصَّبايا والأراملِ في غزّة، واخترقت جدارَ الإنسانيَّةِ الأصمَّ، الذي لم يحمِ أحدًا من قذائفِ الحرب، وتلك المِسافاتُ لا تفصلُ أهلَنا عن ذويهم وأحبَّتِهم وكلِّ ما اجترحوا من مُقتَنَياتٍ وأماكنَ فحسب، بل إنَّها مِسافاتُ ألمٍ وقهرٍ وتجويعٍ وتعطيش، تُصيبُنا في السؤالِ الثَّقافيِّ ورأسِ السردية، وتقتلُ كما الصواريخ.
تَعلَّمْنا كيف يركعُ الواقعيُّ أمام خُرافيَّةِ الأجسادِ الممزَّقة، وتحت الأنقاضِ نُدرِّبُ القلقَ على الحياة، ونَصعدُ فوق الاحتلالِ لتكونَ بلادُنا حرَّةً، كما نحن. كان عامُنا السابقُ تحت المِقصلةِ قيامةً تلو الأخرى لم تنتهِ، فإلى كلِّ الذين لم يعُدْ لديهم طريقٌ للبيت، وينتظِرونَ موتَهم، ها نحن نقرأُ فوقَ رؤوسِهم آخِرَ الكلماتِ والوصايا. كان الدَّمُ يتشظَّى، كلّما لاذوا بالغياب، يهُزّونَ النَّخلَ ليشُقّوا تمرَ العروبةِ فينا..
وتتبدَّلُ المفاهيمُ وتنشأُ أخرى جديدة، هؤلاءِ سنةٌ أولى خيمة، وآخَرونَ بدؤوا السَّنةَ الثانية، وقد تغطرست مُصطلحاتٌ مُستحدَثة: نازِحونَ، ونازِحونَ جدد، ومُشرَّدونَ يبحثون عن أماكنَ للنومِ تخلو من رائحةِ الخوف.
منذ أيّامٍ وساعاتٍ مُكثَّفةٍ يقفُ شمالُ غزّة بلحمِهِ في وجهِ الساطورِ والاستئصال، وتلك القشعريرةُ بين الضُّلوعِ كيف نُهدِّئُها كلّما كتب الدَّمُ الأزليُّ على الجدرانِ حكايةً جديدة؟ كيف لنا أن نرفعَ قلوبَنا المُنكَّسَةَ خذلانًا؟ وكيف لنا أن نُعليَ أكتافَنا بهياكل من حطام؟ وثِقَلٌ في القلبِ لا يغفو. أما الآن فلدينا عملٌ جليل، أن ندعوَ: يا الله، مُرَّ أهلَنا في غزّة وخذْ بخاطرِهم. ولأنَّ الوطنَ هو حياتُنا وقضيَّتُنا معاً.. فهو الشَّوقُ من أجلِ استعادةِ الحقِّ والأرضِ، وليسَ الوطنُ أرضاً؛ لكنّه الأرضُ والحقُّ معاً