صنـــاعة النحـــاس في قسنــطينة تستغيـث
تزخر عاصمة الشرق الجزائري، لؤلؤة وادي الرمال، قسنطينة بمختلف منتوجات الصناعات التقليدية والحرف.
هذه المدينة التي لا تزال تحافظ على عبقها الجميل ونسماتها المليئة بالعادات والتقاليد،
تعتبر ثروة المدينة العتيقة والقديمة قدم حرفها وصناعاتها اليدوية الضاربة في أعماق حضارتها وتاريخها الزاخر.
سكانها اختاروا المحافظة على عاداتهم وتقاليدهم، متخذين مهنًا لهم يروون من خلالها تاريخهم وحضارات تعاقبت عليهم، فمن بين هذه الحرف تبقى حرفة النحاس تصارع الزمن وترفع التحدي لتواصل مسيرة أجيال متعاقبة اختارت مزاولة مهنة لها عراقة ومكانة خاصة لدى الجزائريين.
وتظل الصناعة التقليدية ركيزة أساسية لحياتهم اليومية، ونشاطًا تجاريًا يدخل كل بيت عبر الأواني المستخدمة في مختلف الأنشطة والاحتياجات المنزلية وكذا يعبر على ثقافة وأصالة مجتمع كامل، إلا أن العراقيل ونقص الإمكانيات المادية والمعنوية أثرت سلبا على استمرارية حرفة النحاس. التفاصيل تعرضها “الشعب” في هذا الاستطلاع.
تواجه حرفة النحاس، الفن الذي تشتهر به المدينة الأثرية والعتيقة قسنطينة “خطر الزوال” بسبب غياب آفاق تستهدف إعادة تثمينها وإحيائها وهو ما أجمع عليه بعض حرفيي النحاس بالولاية لـ “الشعب”.
هؤلاء الذين يعانون من نقص التأطير والمرافقة من طرف الجهات المعنية، فضلا على أن خطر الاندثار الذي يهدد حرفة النحاس يرجع بالدرجة الأولى إلى نقص التكوين والتمويل حيث أشار حرفيون في النحاس الى أن هذا الفن المتوارث عن الأجداد “قد عرف عزوفا من مهنييه الذين خضعوا للأمر الواقع بعد عديد المحاولات الفاشلة لمواجهة العوائق المفروضة خاصة غلاء المادة الأولية ونذرتها، كما أن أوراق النحاس المعروضة بالأسواق المحلية “من النوع الرديء، تباع بأسعار باهظة”.
هذا ما أشار إليه الحرفي عمي محمد أحد مهنيي النحاس القدامى الذي يرى بأن هذه الأسواق التي “لا تخضع للمراقبة” لا تفسح المجال أمام أي حرفي ولا تحفزه على العمل والاستمرار.
من جهته أوضح عمار، صاحب محل متخصص في النقش على النحاس، أنه على مدار خمسين عاما كان شاهدا على مسار وتاريخ هذه الحرفة، فمنذ القدم هناك ارتباط وثيق بين الأواني النحاسية والأسرة القسنطينية، أو غيرها من الأسر على مستوى مناطق الشرق الجزائري”، فلا يخلو بيت أي عائلة من “الأدوات النحاسية، خاصة المرشات، والمزهريات، والشمعدانات، والسينيات التي تقدم من خلالها القهوة للضيوف بكل لوازمها”.
وأضاف عمار: “كانت العروس لا تزف إلى بيت زوجها إلا بعد أن تقتني حاجتها من الأواني النحاسية”، لكن اليوم -يقولها بكل حسرة وألم- “باتت الأواني المقلدة والمستوردة من آسيا تغزو بيوت الجزائريين، وتقضي على الصناعة المحلية رغم جودتها العالية”.
وقال سمير (48 عاما) عامل بالورشة التي يمتلكها عمار الذي وجدناه منكبا على نقش سينية كبيرة قال: لـ “الشعب” إن الحرفة التي تعلمها منذ أكثر من عشرين عاما تواجه تحديات تهددها بالزوال، أهمها غلاء سعر المواد الأولية، والسبب في ذلك هو احتكار مجموعة من رجال الأعمال استيراد هذه المادة من الصين وإسبانيا، وكشف لنا أن سعر رقاقة واحدة من النحاس الذي تصنع به السينية يقدر بـ 10 دولارات.
في جولة استطلاعية قامت بها “الشعب” للقرية الحرفية الكائنة بالمنطقة الصناعية بوصوف وقفنا على شروط العمل غير المتوفرة بدءا من نقص الإمكانيات المادية والبشرية وصولا إلى انعدام العنصر الأمني لتتحول القرية المستحدثة من طرف الولاية بمكان بعيد عن وسط المدينة إلى مرتع آمن للمنحرفين ومكان مهجور.
هذه الوضعية دفعت بالحرفيين إلى غلق محلاتهم التي تنعدم أساسا لكل الضروريات اللازمة، مثيرين حالة من الاستياء والتذمر .
ومن خلال حديثنا مع رئيس جمعية فن النحاس لولاية قسنطينة “بودينار لحسن” أكد لي أن خلفية اختيار المدينة لاحتضان فعاليات مجمل الصالونات في الحرفة والصناعة النحاسية أمر مرحب به مضيفا في هذا المجال:« وأننا كحرفيين محليين تمكنا من افتكاك علامة الجودة في صناعة النحاس على المستوى الوطني”.
غلاء المادة الأولية يضع بثقله....على مستقبل الحرفة
وأضاف رئيس الجمعية أن حرفة النحاس بالولاية تتراجع بسبب عدد من المشاكل والعراقيل إلى غلاء المنتجات النحاسية والذي يعود بالدرجة الأولى إلى غلاء المادة الأولية المستوردة من الخارج والتي تتعرض لدى وصولها الى الموانئ الجزائرية للعراقيل، وهو ما يصعب الأمور في التزود بالمادة الأولية بالأسواق فضلا عن مشكل السوق الموازية التي تضع بثقلها على الحرفيين المسجلين بالغرفة والذي تتراوح أعدادهم ما بين 120 حرفي مقابل 200 حرفي غير مسجل.
وأثار رئيس الجمعية مشكل نقص المحلات وفضاءات تعليم الحرفة يدويا حيث طالب الجهات المعنية بضرورة الالتفات لوضعية حرفي هذه الصنعة وذلك من خلال توفير محلات وسط المدينة حفاظا على الموروث الثقافي لها.
وقال بودينار، إن الجمعية تخوض معركة من أجل المحافظة على حرفة النقش على النحاس، ليعطي مثال على ذلك القرية الحرفية الموجودة بتونس، مقترحا مجموعة الحرفيين التي حدثتهم “الشعب” على ضرورة تمكينهم من منطقة حرفية قانونية تجعلهم يزاولون نشاطهم بطريقة تمكنهم من حماية الموروث الثقافي والتاريخي.
اقترح بودينار استحداث قرية وسط المدينة لا بمخارجها والتي تتمثل في منطقة حي رحماني عاشور والمعروفة بمنطقة “باردو” التي كانت في الماضي معروفة بصناعة النحاس إلا أن القرارات العشوائية ساهمت في تغيير المكان هذا العامل الذي ساهم كثيرا في تهميش الحرفة هذا إلى جانب عوامل أخرى ستأخذ في ظل هذا التهميش إلى الزوال والاندثار.
من جهة أخرى، أشار حرفيون لـ “الشعب” إلى أن هذا الفن المتوارث عن الأجداد عرف عزوفا من مهنييه الذين خضعوا للأمر الواقع بعد عديد المحاولات الفاشلة لمواجهة العوائق المفروضة خاصة غلاء المادة الأولية وندرتها. وقال الحرفيون: “الآن أوراق النحاس المعروضة بالأسواق المحلية من النوع الرديء وتباع بأسعار باهظة”.
أكد الحرفي “عمي محمد” الذي يعتبر من بين الحرفيين القدامى والذي يجد بأن الأسواق لا تخضع للمراقبة ولا تفسح المجال أمام أي حرفي ولا تحفزه أساسا على العمل والمبادرة، أنه آن الآوان لرد الاعتبار لهذه الحرفة، فقد مضى الوقت الكافي لكي يتخذ المسؤولون المحليون الإجراءات الضرورية لحماية هذه المهنة المدرة للربح والموفرة لمناصب الشغل.
وتأسف عمي محمد لدخول معظم حرفيي النحاس بمدينة الصخر العتيق مرحلة التقاعد في فترة متقدمة بسبب العراقيل والمشاكل التي وقفت في وجه تقدم هذه الحرفة، أين تجدهم ينشغلون في جل أوقاتهم بتنظيف القطع القديمة المصنوعة من النحاس داخل محلاتهم الصغيرة.
عزوف الشباب عن الحرفة مشكل قائم
إن المشاكل والعراقيل التي تواجهها حرفة صناعة النحاس أثرت سلبا على اهتمام فئة الشباب في تعلم هذه الحرفة حيث أكد رئيس جمعية صناعة النحاس بقسنطينة أنهم لا يولون أي اهتمام لهذه الحرفة التي أصبحت بالنسبة إليهم غير مربحة ولا تلبي احتياجاتهم.
هذا ما أوضحه مسؤولون بغرفة الصناعة التقليدية والحرف الذين أشاروا إلى العوائق الكثيرة التي تعرقل تنمية هذا الفن.
ويبرز غلاء أسعار المادة الأولية وانعدام المساعدات التي من شأنها الإسهام في تجاوز الصعوبات من بين العوائق الرئيسية التي تعرقل أي مشروع لاستحداث ورشة لصنع منتجات نحاسية حسب ما أوضحه مسؤولون بغرفة الصناعة التقليدية والحرف الذين أكدوا على تلقي عدد “قليل” فقط من طلبات الحصول على بطاقة حرفي مختص في صناعة النحاس.
كما اعتبر مسؤولو غرفة الصناعة التقليدية والحرف بأن فن النحاس يشكل أولوية مستعجلة لضمان بقاء هذا التراث الذي يرمز إلى هوية القسنطينيين خصوصا والهوية الوطنية عموما.
أكد لنا الشباب الحرفي من جهته تخوفهم من اقتحام حرفة النحاس بحجة عدم ضمان مستقبل، مرددين الحجة المألوفة المتداولة ومردها أن غلاء المادة الأولية السبب الأول والرئيسي وراء عزوف الحرفيين عن العمل في هذا الموروث الفني الأصيل، كما أن نقص تكوين الشباب الراغبين في تعلم الصنعة بالمراكز المهنية يقف حائلا دون تعلمهم لهذه الحرفة، خاصة وأن المدة المخصصة لتعلم الشباب بالمراكز لا تتعدى الـ 18 شهرا.
ونفس المشكل أثاره حرفيون بمنطقة الرصيف حيث أكدوا أن الحرفة ستندثر إذا لم تتدخل الدولة لتوفير المادة الأولية، مطالبين بضرورة توفير الإمكانيات اللازمة للحفاظ على هذا الإرث العريق.
رغم العوائق والمشاكل...النحاس زينة حياة القسنطينيين
وبالرغم من كل هذه المشاكل التي تعاني منها هذه الحرفة العريقة، إلا أنها مازالت تقاوم الاندثار والزوال، متحدية بذلك كل التطورات والتغييرات.
وقفنا على هذا الواقع من خلال الحديث إلى الأسر القسنطينية التي أكدت أنه ورغم كل ما قيل إلا أن جل بيوت سكان سيرتا لا تكاد تخلو من أواني النحاس ولو بوجود قطعة صغيرة، كما أن غلق بعض المحلات بوسط المدينة أو تغيير نشاطها ورغم تأثيره السلبي على حرفة صناعة الأواني النحاسية إلا أنه لم يقف حائلا أمام هذه الحرفة التي تبقى صامدة.
فالأواني النحاسية بمدينة قسنطينة ضرورية جدا لأي منزل، ذلك لأن مدينة الصخر العتيق تبقى عاصمة للنحاس ومعقلا للإبداع من طرف الكثير من الحرفيين الذين عمدوا على نقل الحرفة من الأجداد الى الأبناء من خلال الرسوم التي كانت تنقش على السينيات وأواني الزينة وغيرها من الأواني المنزلية التي كانت تحمل صور الجسور المعلقة، أو ما يرمز لعادات عاصمة الشرق، كالملاية وأبواب المدينة، وكذا منبع المياه لسيدي الجليس أو عين الباي، إلى جانب أبواب المدينة القديمة، وهي الأواني التي كانت ولازالت تستخدم كثيرا في البيت القسنطيني.