الشّاعر عـبد الرحيم جداية في ديوانه “قلقْ أنا”

ما زال صاعداً على دراج القلق

بقلم: فرحان الخطيب

للعنوان في الدّراسات النّقدية الحديثة أهمية ومكانة لا تخفى على شاعر متمكن ومتمرّس في كتابة القصيدة، وخاصة إذا كان ممّن يشتغلون على الشعر والنقد بآن معاً كالشاعر عبد الرحيم جداية، فهو شاعر ضليع بتقانات الشعر وأدواته وما يرمز إليه أو يشتمل عليه، ما جعله يختار “قلقٌ أنا” عنواناً لمجموعته الشعرية التي بين أيدينا، ولعلّنا أوّل ما نقرؤه نذهب بكلّيتنا إلى جدنا المتنبي شاعر العرب الأكبر لنستمع إليه وهو ينشد:

على قلقٍ كأنّ الرّيح تحتي
تحركني يمينا أو شمالا
وما أن نفرد صفحات الديوان ونطلع على مضمون ما كتب شاعرنا حتى تتضح لنا الرؤية، ويطل قلقه الجمعي والفردي برأسه من أبواب وشبابيك القصائد بأشكال مختلفة، وموضوعات متعدّدة، فهو قلق مع الحب، وقلق مع الوطن، وقلق مع الموت، وقلق مع العروبة، وقلق مع ذاته وقصيدته، فنراه محمولاً على شعور قلق ومفرداته كموج يتصاخب على صفحات ديوانه، وتتقافز معانيه تحت ظلال العنوان الرئيس لتدلنا على ماهية القلق الذي يلقي بغلالته على العنوانات الفرعية مثل، هذا ما ذكرته الريح، يكاد يشبهني الغياب، بين السراب وجدتها، نقتسم الرحيل، دروب النمل، وكلها عنوانات تشي بقلق ما، وهذا أشار إليه الناقد رشيد يحياوي في كتابه “الشعر العربي الحديث” حيث يقول:
«أما في الشعر الحديث فالعنوان لم يعد مرشدا نتعدّاه إلى غيره، لقد أصبح حلقة أساسية ضمن حلقات البناء الاستراتيجي النصي، وأصبح بالإمكان أن تتحدث عن شعرية للعنوان كحديثنا عن شعرية النصوص المعروضة بعد العنوان”.
وهذا يحيلنا إلى أنّ العنوان “قلق أنا” قصده الشاعر لذاته بما يشع من شعرية منبلجة منه، وتطلق إشارتها إلى ما يليه من المضامين الأخرى، منطلقاً من القلق الذاتي، حينما يقول:
«قلق أنا..
ستقول سنبلة الحقول لأختها..
قلق هو..
وتقول ثم سحابةٌ لسحابةٍ مرّتْ هنا..
قد كان يرتجف الخريفُ علة يديه..
قلقٌ يساورني عليه..
حتى اليمامة غادرتْ أغصانهُ..
قد كان يسكنهُ الأرق..(ص 5).
ويتجاوز الشاعر قلقه الذاتي الساكن فيه، والمشرئبُّ تحدّقاً بما حوله من حيثيات الحياة الأخرى الطبيعية كالسحابة والسنبلة واليمامة، مفردات أنسنها وحوّلها بإحساسه الرّهيف إلى كائنات تشعر وتحدس وتعبر عن حالة الأرق والقلق التي تلتف حول أنا الشاعر المتواثبة والموّاجة في فضاءات فكره، يمثلها الزمان المرتجّ والمخضوض والمكان الذي يبدو كنواس يتحرك ولكن دون انتظام، فتصطرب القصيدة مكانياً وتميد بحمولات الشاعر النفسية، لتحط رحالها في قلق وطني نلحظه في هذا المقطع:
في ساعة والباص ينتظر المسافر..
في انتظار حقيبة خلف الكواليس القديمة..
والفتى قلق كأعواد المشانق..
والجند تسعل نارها..
في أخمص القدمين تسعل نارها..
والجسر يعرفه الحفاة العائدون لأرضهم..
فسجودهم في القدس لحن مجازهم..(ص 31).
إنه قلق انتمائه الوطني والقومي بآن، لأن الفتى قلق كأعواد المشانق المدلّاة وهي تداور الروح لتباغتها في لحظة فارقة بين الوجود ونقيضه، ولا يقل عن ذلك القلق المرافق لفتى يخترق النار ليصل الى قدسه الرتسخة في الوجدان، يا له من عبور محتشد بأعالي حالات القلق التي تصيّر الحياة كنجمة نازلة على سفوح الخفوت إلى أقاصي القاع. ويحدو القارئ الأمل في أنه لابد واجد في تضاعيف قصائد الشاعر قيلولة ليستريح بها من تجاوزه هذا الهمّ المحمول بلغة الشاعر التي تهدف في انسيابيتها للوصول إلى مستقر لها في ذات المتلقي علّها تزيح عن كاهله بعضا من هذا القلق، ولكنه لا ينال مراده، وبتقابل مع مزيد من قلق الشاعر حتى وهو في واحات عشقه التي نفترضها واحة للسكينة ومناجاة الحبيب، إلّا أنه وضعنا في هذه الأجواء:
لا تصنعي من حرفيَ المحدود شيئاً..
غامضاً مثل الحضورِ ممزقاً مثل الغيابْ..
لا شيءَ مثل ملامحي..
وتموتُ بعدي المعجزاتْ..
فينطفي في النفس بعض من هواكِ..
فرددي بعض الكلام..
يكادُ يشبهني أنا..
إن كان جسمي متعباً مثل الضبابْ..(ص 24).
وهنا يزيح الشاعر الستارة عن قلقه الوجودي، حيث نجده متماهيا مع مثيلته في العشق، فغزالته الشاردة عثرت وأرقها الهديل، ونصفه قد تشظى بين يديها، فأي قلق وأرق يفضيان إلى التفتت والتلاشي فالانغماس في دائرة اللاحياة، حيث يطلب منها احتضان القتيل، هذا قلق غير معافى، وليس قلقا خصبا كما يجب أن يكون في التمهيد لاجتياز بعض محطات الحياة إلى الأفضل، يقول:
عثرتْ هناك غزالةٌ..
عثرتْ وأرّقها الهديل..
نصفي هناك مقسّمٌ..
نصفي تفتت في يديكِ..
فهاتفي قدري وصبّي ما تبقى..
من غبار الكون..
في جفنيكِ واحتضني القتيلْ..(ص 216).
وأجدني وأنا جوّالٌ في حدائق “قلق أنا” منجذباً إلى قطوفٍ مشتهاةٍ من المعاني المعلقة على غصون اللغة الوارفة عند شاعرنا عبد الرحيم جداية، فمن وطن قلق إلى غزل أكثر قلقاً، نراه فجأة يضعنا في روضة هانئة، تحفها السكينة والغزل الرّيحاني ونسيم الدّعة والهدوء، يقول:
حين يرتفع الغمام إلى يديك..
فيشتهي منك العيون النابضات بحبها وبقلبها..
تدنو السماء إلى العيون فتستكين..(ص 193).
وفي مواضع أخرى، يسلُّ ذاته من هذا الفيض الوجداني الرّاني على بحيرة هدوء، لتعيد رياحه تحريك موج عواطفه بلغة موّارة بالغزل، فتلحّ عليه رغابه الظامئات، فيطلق العنان لخياله، يؤازره جموحٌ ملحاحٌ إلى سرّها المكنون في قمرين يرتعدان في كفي الشاعر فيغدوان مُهرين يستبيحان الدروب الوامضات الواصلات إلى البهّار من شقائق النعمان عندها:
قمران يرتجّان في شغف الهزيمة والضياع..
لا تخبري الخصر النحيل عن العيون..
وسرّك المكنون في شفتي..
ذئبيةٌ تلك السفاه..
ذئبيةٌ تلك العيون..
قمران يرتعدان في كفّي..
والخدّ أرهق بالقبلْ..
لا ترحلي..
فالذئبُ يعوي فوق خصرك
كي يطال شقائق النّعمان..(ص 122).
وبعد طوافنا في أكناف “قلق أنا” نجد أن تجربة الشاعر جداية وثّابة دائما إلى اقتفاء الحداثة والتجديد، يدلنا على ذلك اشتغاله على نول الشعرية، متجسما عناء البحث والتّقصي ومداورة الألفاظ والمعاني محاولاً الإيقاع بها في شباك التجاور ليقتنص معنى جديداً ومغايراً لمعناه القاموسي كما في “فالذئب يعوي فوق خصرك” لعله في تلك المحاولات يقبض على التماعات شاعرية، ويوقع عليها بإمضاء عبد الرحيم جداية، وهذا ما يدفع بعجلة شاعريته صعوداُ، على الرغم من طول جملته الشعرية أحيانا التي قد يصيبها الذبول لا بتعادها عن نسغ تكثيفها البارق في قصرها، مثل: “متعب ظلي ومثلي راحل بين الحروف المسرجات بمعجم عشق انزياحات المعاني خاشعاُ في الغار تشغله القصائد سارحات الطرف تكتبه الهموم فيكتوي إن بلّ ريقهْ” ص 205.
صحيح أن رؤية الشاعر واضحة وبلغة رشيقة حماّلة لها أوصلها لنا، ولكن التكثيف والاقتصاد اللغوي مرغوب في قصيدة موسومة بالحداثة، وشاعرنا جداية لديه من القدرة والشاعرية على إنجاز المقصود وببراعة كما هذا المقبوس الرقراق شكلاً ومضموناً:
هذا هو المعنى يطوف حديقتي..
ويرقّ في المعنى المجاز لبحرها..
هامت ترف الروح..
يصعد طيرها..
في حلم من سبر القصيد بريشهِ..
كي ينقش الكلمات في عتباته..(ص 116).
ولأن الزّمن لا يستأذن مشاعرنا، ولا يأبه لفراق أحبّتنا وحزننا، ولا يزعجه وقوفه في إحدى محطات حياتنا ليحمل معه رحيلاً موجعاً، وأمومة حانية تاركة في حناجرنا غصات مريرات، حينها لا يقوى الشاعر إلا أن بكون طفلاً ينوح وينشد:
سلامٌ على وجه أمي..
سلام الخمام يطير يغرّدْ..
زمان الرحيق لقلبك أمي..
زماناً توددْ..
فهلّ الزمان على البحر صلّى..
أقام الصلاة على راحتيها..
توضّأ ليلاً هديل الحَمامِ عَلى طُهرِ خدْ..(ص 105)
وعبد الرحيم جداية شاعر مسكون بقلق عروبي واضح وجليّ، ويَجهرُ بأحَاسيسهِ وعواطفه التي تؤلمهُ لمرآى أمّته تنوشها الجراح من كل اتّجاه، فتنطلق حنجرته نشيداً حزيناً موجعاً..
بلقيس ترقص في دمي..
صنعاء تنكر ذاتها..
بغداد ترقب عرسَها..
حلبٌ تنادي يا يَمامةُ
أين منك الزّيرُ في صولاته!؟
أين الفرزدق أو جريرُ وأينَ خاتمةُ البلاءْ..!؟
لقد حملت مجموعة “قلق أنا” مجموعة غير قليلة من القيم التعبيرية والجمالية، بثّها شاعرنا جداية في ثنايا وتضاعيف قصائده، ببراعة لافتة وشاعرية متقدة، تمظهرت عبر انزياحات دلالية واضحة مثل “متعب ظلي، أفقي ضامر، لهفة الصوان، والليل يشد سراجي..إلخ”، وغير ذلك كثير، وقد لوّن الشاعر ديوانه بالعديد من الصور الراهجة عبر لغة متدفقة سلسة شفيفة ورقيقة غير متعثرة أو مقعرة، بل توحي بامتلاك الشاعر ذخيرة لغوية كبيرة ما جعله يغرف من بحرها ما يشاء منها خدمة لمعانيه التي يبتغي إظهارها ما بين الجهر والاستتار الذي يخفي غواية لا إبهاماً، كي يشاركه قارئه باستملاح نصوصه وإزاحة الستارة السفيفة عن المقصود منها.
وشاعرنا عبد الرحيم جداية أفاض بالمعاني الجاذبات بما يقرب الأربعين قصيدة انداحت على بياض أكثر من مئتي صفحة وراء عنوانه “قلق أنا”، ناضحاً من عاطفة صادقة وحساسية مرهفة ونبالة عالية، ما يسرّ القارئ من شعر، وينعش الفؤاد من فوح الكلم الموشى بالطيب والعطر، متمنيا له المزيد من العطاء والألق.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024