في باب العلاج الطبّي، قد يلجأ الطبيب إلى علاج الألم بآخر أقوى منه ينُسي المريض آلامه الأولى، كما قد يكون صادماً لكثيرين استخدام شحنات كهربائية لإحداث صدمة تخلخل الجسد الآدمي في محاولةٍ قد تكون أخيرة لتحريك قلبٍ توقّف عن الخفقان أو اضطربت وتشاكلت خفقاته، بحيث يغدو عاجزاً عن دورِه كناظم لأنغام الخلايا وضبط سيمفونية نعمة الحياة..
هل هكذا هو الأمر في حال السلوك الصهيوني معنا، عندما ينتهي من ابتزازنا في موقعة ليفاجئنا بضربة أكثر استفزازا، في مصادرة لأراضيَ أو هدمٍ لبيوت، لا تكاد أصواتنا ترتفع استنكاراً لها بانتظار أن يهبّ الكونُ حتى يفتح جبهة استيطان أخرى في القدس أو اعتقال أو اغتيال هناك أو طعنة في صميم المقدّسات هنا، في الوقت الذي يلوّح فيه بحروب متعدّدة على أكثر من مسار، واتهامٍ على أكثر من صعيد، وشكوى من تعطيل الفلسطينيين للسلام..
وتصل الأمور إلى حدّ البكاء حين يعلنون عن رغبتهم الصادقة في العيش بسلام وضرورة تعاون العرب مع اليهود ضدّ أعدائهم المشتركين حيث تكمن الأولوية هناك، لا هنا بين شعبٍ يموت منذ بداية الموت في عام الموت من قرن الهيكل الثالث وكنيس الخراب، قد يكون هذا استخفافا إلى حدّ الكوميديا، وقد يكون استخداماً لأسلوب الضربات المتواصلة كي تضيع الكذبة في الكذبة أو لأسلوبِ الوقاحة الثقيلة بحجم المستحيل، فما دام الأمر كذبا في كذب وغصباً في غصب وسرقةً في سرقة وتزويراً في تزوير، فلتأخذْ الكذبةُ مداها النهائي ولتأخذ الوقاحة شكلها النقي الأول ولتمتحْ من آبار السفور الكامل، فمن سيصدّق أنّ كذبة بهذا الحجم يمكن أن تكون، فلعلّ العقل يعجز عن احتمال التكذيب ويستسلم في لحظة إلى قدراته البسيطة في تصوّر القدرات الممكنة للإنسان على ممارسة الجريمة والتهويد..
هل يجرؤ عاقل على الكذب الصافي إلى هذه الدرجة من الشفافية، وهل تحتمل روحٌ استشرافَ هذه الجرأة في الإدّعاء، فقد يكونون كاذبين، خاصّة إذا كان المعنيُّ بالخطاب أناساً صفحاتُ أرواحهم نقية وصافية وبيضاء ولامبالية بما يجري على أرض التاريخ ولا تملك من الوقت ما يدعوها للتمحيص والتدقيق ولا ترغب أساساً في الغوص في متاعبَ من هذا النوع، فلتستسلم لهذه الثقة العالية في روح الادّعاء، فلقد كادت الكذبة أن تصدّق ذاتها، لولا الشهداء واللاجئون والآثار وبعض الأشعار، فكيف السبيل لتغيير لون الحزن وطعم الجرح، وهو الشاهد النهائي على بصيرة الرواية رغم ما تقدّم من أخبار..
هل تكفي كلّ هذه الضوضاء لتفقأ عين الشمس، حتى لو سجنوا الأرض في زنزانة، واختبأوا في نفق الخديعة؟! لتكن الحكاية بحجم الكون ولتكن الفرية أكبر من الحكاية وليكن السيناريو أكبر من الفرية، فقد يكون هذا كفيلاً بجعلهم يصدقون أنفسهم ولو قليلا، وقد تحدث معجزة ما ويصدّقهم حجرٌ سمع لعناتهم القديمة على لسان داوود وقد يصدّقهم موّالٌ في أغنية قديمة، ليكن هكذا إذاً أسلوبُ الصدمة الأخيرة، ألمٌ يعالج الألم وصدمة تصدم القلب وتفجع الفجيعة، ولتكن كذبتهم بحجم خذلانهم وأكبر من فضائحهم وجرائمهم، فقد تستطيع الكذبة الكبيرة حينئذٍ أن تشوّش على هذا الخذلان الذي يُمنَون به في التنقيب والغوص في بواطن الأمور والصخور ليسندوا الكذبة إياها بما تيسر من أوهام، ناسين أنّ المسألة قد انتهت وأنّه قُضي الأمر الذي فيه يبحثون، فقد لُعنوا، وقد كُتبَ “في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون”، فحتى لو زوّروا الوهم الذي عنه يبحثون لما كان له أن يعني ما يريدون، ولكنّهم يصادرون الآن ما فوق الصخور بعد أن تبخّرت أساسات الأكاذيب المرجوّة تحت الصخور وبين السطور، وقد وصمهم العالمُ بالمجرمين وأصبحوا ملاحَقين ومنبوذين وكما كُتب عليهم؛ بالذّلة والمسكنة موسومين، فلتكن الكذبة ساطعة والادّعاءُ مدويّاً لعلّهم يُشوّشون على آذانهم سماعَ حقيقتهم في العالمين،
لكن السبب الأكبر الذي يحدوهم للإيغال في الكذب والادّعاء ويفتح شهيّتهم على المستحيل أنّهم صدّقوا ربما أنّه قد فتحت لهم الأبواب وأنّ هناك من آمن أو سلّم بكذبهم القديم فانفتحت شهيّتهم على مسلسل جديد ووهم أكيد لن يستيقظوا منه إلا على فجيعة الحقيقة، فلا الحرم لهم في الخليل ولا الجليل ولا حيفا ولا يافا ولا مسجد بلال أو قبة راحيل ولا عكا ولا الجنوب ولا الشمال ولا أيّ حجر في القدس، القدس .. أيّ كلّ فلسطين.