محكـمة يـوم الـقـيـامـة

بقلم: عيسى قراقع

محكمة يوم القيامة هدفها حماية الموتى من الموت المتكرّر والمتجدّد، فالضحايا عالقون بين الأرض والسماء، فإذا لم يكن لهم قبور في الأرض، فالصواريخ تحفر لهم قبورا في الجو، وإنّ ميثاق المحكمة واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وسائر القوانين الدولية والإنسانية لم تستطع أن تحمي الأموات بعد الموت، ممّا يضع التزاما على المحكمة مناقشة الوضع القانوني والإنساني للموتى، لا سيما أنّ كلّ من يعيش في غزّة معرّض للموت في الدنيا والآخرة.
قررت محكمة العدل الدولية في لاهاي عقد جلسة خاصة وطارئة استكمالا للمحكمة الأولى التي عقدت يومي 11-12 جانفي 2024، والتي اتهمت فيها دولة الاحتلال الصهيوني بارتكاب الإبادة الجماعية الممنهجة بحقّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، وتجيء الجلسة بناء على طلب أكثر من 42 ألف شهيد ضحايا المجازر الدموية المتواصلة في قطاع غزّة، وأطلق رئيس المحكمة على هذه الجلسة: محكمة يوم القيامة.
وقد بررت المحكمة عقد هذه الجلسة بأنّ قرارات المحكمة السابقة، رغم وضوح البيانات والتقارير الموثقة التي تدين الكيان الصهيوني بارتكاب الإبادة الجماعية والجرائم الإنسانية، والإجماع الدولي والحقوقي والإنساني على ذلك، إلا أنّ هذه الإبادة لم تتوقّف بل تصاعدت أكثر، ولم يلتزم الكيان الصهيوني باتخاذ التدابير التي طلبتها المحكمة لوقف الإبادة، وجاء في حيثيات قرار المحكمة: أنّه تقرّر عقد جلسة استماع عاجلة لضحايا الإبادة، لأنّهم لا زالوا مهدّدين بعد الموت، وأنّ الإبادة تلاحقهم روحيا ونفسيا وجسديا وإدراكيا.
محكمة يوم القيامة ستتخذ كلّ الإجراءات لمنع الإبادة ما بعد الإبادة، فلأول مرّة في تاريخ الجرائم الدولية، يموت الناس عدّة مرات، وأنّ عالم الموت والحياة الأخرى تتعرّض لهجوم عسكري لإفناء الموت ذاته، على اعتقاد المجرمين أنّ الإنسان بموته لا يأخذ جسده وحده، بل يأخذ كذلك المكان الذي عاش فيه، ومادامت المحكمة لم تستطع حماية الأجساد وإنقاذهم من الإبادة على الأرض، فمن واجبها حماية الأرواح التي تحرّرت في فضاء الكون.
محكمة يوم القيامة هي محكمة استثنائية، تطالب من خلالها الوقف الفوري لجريمة إبادة الروابط العميقة بين الروح والجسد، بين سكان الأرض وسكان السماء، وتأمر المحكمة الاحتلال الصهيوني بالكفّ عن القتل والمذابح والتسبّب في تصفية الضحايا وحرمانهم من الحياة بعد الحياة، وترى المحكمة أنّ الاحتلال الصهيوني يستهدف الذكريات ومحو الذاكرة، وعندما تموت الذكريات، يموت الناس، وهو ما نسميه اليوم التالي في غزّة: الإبادة بالنسيان، وكأنّ الناس لم تعش سابقا.
محكمة يوم القيامة، وإدراكا منها لدورها الهام، وممارسة مسؤولياتها الجسيمة، استدعت كلّ العلماء والخبراء والفلاسفة والفقهاء والمفكّرين، واستندت إلى النظريات الاجتماعية والنفسية والدينية والإنسانية، إضافة إلى الاعتماد على روايات الشهداء أنفسهم، وعلى التقارير الصادرة عن المؤسّسات والمنظمات الدولية، وتقارير الصحفيين أو ما كتب الشهداء قبل الموت، حيث يتعرّضون لمسح شامل لأبدانهم وذكرياتهم وخبراتهم التي تركوها خلفهم، وكأنّهم لم يكونوا موجودين أساسا، لم يولدوا، وليس لهم أيّ صلة بعالم الدنيا، لا بالغد ولا بالأمس.
امتلأت ساحة محكمة العدل الدولية في مدينة لاهاي بالشهداء عندما بدأت جلسة محكمة يوم القيامة، انتفاضة عارمة من الجثث أثارت دهشة المجتمع الدولي، جثث من كلّ الفئات العمرية، أطفال وشباب ونساء وكبار في السنّ، خدّج ورضّع، وصحفيون وأكاديميون وكتّاب وعلماء وفنّانون، عمال وأطباء ومسعفون، أسرى وأسيرات، خرجوا من القبور أو من أكياس الأشلاء، وبعضهم خرج من تحت الأنقاض، وآخرون جاءوا من مقابر الأرقام ومن الحاويات والثلاجات الباردة، جاءوا للإدلاء بشهاداتهم عن الإبادة التي يتعرّض لها جوهر النفس البشرية بعد الموت.
في ساحة المحكمة، ترى جثثا ممزّقة وأخرى ناقصة الأطراف.. جثثا مهروسة ومفسّخة، جثثا محروقة ومشوّهة، هياكل عظيمة، جثث تبحث عن جثث أقربائها وأحبائها وأصدقائها، تتعانق الجثث في ساحة المحكمة.. يلتقي الأهل والجيران، يتفقّدون بعضهم بعضا، يسألون عن الغائبين والمفقودين، يسألون عن غزّة، البيت والحديقة والمدرسة والجامعة والبحر والعائلة.
في ساحة المحكمة تنتشر الدماء، صرخات ورؤوس مقطوعة، هستيريا الموت، يشعر المرء أنّ الحياة كلّها مجرّد مقبرة، ولا أدري كيف يفسّر الفيلسوف سارتر الجالس في قاعة المحكمة العلاقة بين الوجود والعدم؟.. قرابين بشرية كلّ نصف دقيقة.. تلتطم المشاهد بفحم المخيّلة، هل قامت القيامة؟
سيدي القاضي: أنا من سكان مجزرة مدرسة التابعين (مجزرة الفجر)، أنا من سكان مجزرة جباليا، أنا من سكان مجزرة الفاخورة، أنا من سكان مجزرة مستشفى المعمداني، أنا من سكان مجزرة المواصي، أنا من سكان مجزرة رفح (محرقة الخيام)، أنا من سكان مجزرة مدرسة النصيرات، أنا من سكان مجزرة سجن سدي تيمان، أنا من سكان مجزرة دوار النابلسي (مجزرة المساعدات) أنا من سكان مجزرة الشلل الرباعي، أنا من سكان مجزرة الجوع والعطش والجفاف، أنا من سكان مجزرة الطوابير، أنا من سكان مجزرة مخيم جنين، أنا من سكان مجزرة مخيم نور شمس، أنا من سكان مجزرة طوباس، أنا من سكان مجزرة نابلس، أنا من سكان مجزرة خانيونس (مدينة الركام) أنا من سكان مجرزة الإعدامات الميدانية شنقا.. لقد صار الموت اسم مكان بعد أن دمّر المكان، وصار الموت كوشان ميلاد، الهوية والانتماء، بعد أن فقدت كلّ وسائل الحماية والنجاة.
سيدي القاضي: أنا من سكان العائلات المبادة والتي مسحت من السجل المدني بكافة أفرادها، أنا من عائلة دغمش، أنا من عائلة النجار، أنا من عائلة أبو دقة، أنا من عائلة أبو قوطة، أنا من عائلة معمر، أنا من عائلة النفار، أنا من عائلة الاسطل، أنا من عائلة أبو لبدة، أنا من عائلة المدهون، أنا من عائلة أبو مدين، أنا من عائلة الزعانين، أنا من عائلة شهاب، أنا من عائلة دواس، أنا من عائلة فراونة، أنا من عائلة المغربي، أنا من عائلة أبو النجا، أنا من عائلة القصاص، أنا من عائلة الحناوي، أنا من عائلة بشائر، أنا من عائلة أبو بكر.. لقد أبادوا عائلاتنا الذين اختفوا فوق مسرح الذبح والشواء والفناء.
سيدي القاضي: رأينا الموت بكلّ ألوانه، الموت الأبيض، والموت الأحمر، والموت الأسود، والموت الزؤام، الموت بالرعب والتعذيب والاغتصاب، الموت بالجوع والعطش، الموت بالقهر والصمت والخوف، الموت لم يتركنا، جاءنا في البيت وفي الخيام، في المدرسة وفي المقبرة، جاءنا في السجن وفي سيارة الإسعاف، جاءنا في حضن الأب والأم، جاءنا في المستشفى وفي الطرقات، جاءنا في النوم وفي الأحلام، ولا نريد سوى أن لا نتحوّل إلى أرقام.. نحن موجودين حتى بلا أجسام، فجميع الديانات والفلسفات أكّدت أنّ الروح يبقى في عالم ما بعد الموت، فالموت نهاية حياة وبداية حياة أخرى أكثر اكتمالا.
سيدي القاضي.. نطالب هيئة المحكمة باسترجاع أعضائنا الضائعة لكي تكتمل أجسادنا في الموت، وبلمّ شمل عائلاتنا التي مزّقتها أطنان القنابل والصواريخ الفتّاكة، وتبعثرت جثثها تحت الدمار، أو تلاشت وصهرت في أحزمة النيران والانفجارات، ونطالب المحكمة أن يكون لنا جنازات لائقة، وقبور معروفة تكتب عليها أسماؤنا، أن نجد من يدفننا ومن يبكينا ومن يتعرّف علينا، نطالب أن تفتح لنا أبواب السماء، أن يتوقف هدير الصواريخ والطائرات كي نصعد إلى الملكوت الأعلى كاملين ولا نتحوّل إلى غبار، وكلّ ما نريده من المحكمة، حياة أخرى نراها في الباقين من أبنائنا الأحياء، فالذي يوجعنا هو أهلنا الذين تطاردهم الغارات في كلّ مكان، فاستمرار الآخرين في الحياة يهمنا أكثر من بقائنا نحن أنفسنا على قيد الحياة.
سيدي القاضي: نطلب من المحكمة أن نعود إلى الحياة، معايير أحكام القانون الدولي لم تستطع أن تحقّق السلام الإنساني والعدالة، ونعتقد سيدي القاضي أنّه في ظلّ هول الكارثة المستمرة أنّك تحتاج إلى دماغ دبّابة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024