شكّلت مظاهرات 9 ديسمبر 1960، نقطة تحوّل في تاريخ الجزائر ومنعرجا حاسما في مسيرة الثورة التحريرية، والتي انطلقت شرارتها الأولى بولاية عين تموشنت لتأكيد مبدأ تقرير كثير الشعب الجزائري ورفض سياسة الجنرال شارل ديغول لينتشر فتيلها فيما بعد عبر أرجاء الوطن.
القضية الجزائرية في أكبر المحافل الدولية
أوضح الأستاذ حمدادو بن عمر مدير المركز الجامعي لتندوف في تصريح لجريدة «الشعب» أن مظاهرات 11 ديسمبر 1960، كانت منعرجا حاسما في مسار الثورة التحريرية، والتي جاءت عقب زيارة شارل ديغول إلى مدينة عين تموشنت في 09 ديسمبر1960، ومحاولة إلقاء كلمته، مما دفع المتظاهرين إلى منع هذا التجمع، والدعوة إلى رحيل فرنسا واستقلال الجزائر، إصرار شارل ديغول على أن الجزائر جزء من فرنسا، هو ما كان يرفضه الشعب الجزائري دوما، حرص فرنسا بقيادة شارل ديغول على تشجيع ودعم الجزائريين الفرنسيين (الموالين لفرنسا) مقابل تأييد السياسة الفرنسية، إلى جانب رفض جبهة التحرير الوطني لسياسات فرنسا القمعية والتعسفية.
وأضاف ذات المتحدث، أن هذه المظاهرات اتسمت بالتنظيم المحكم والمؤطر من طرف جبهة التحرير الوطني، التي لم يكن يخفى عنها لا من قريب ولا من بعيد تحركات وسياسات فرنسا الاستعمارية، فقد كانت جبهة التحرير الوطني على علم بزيارة شارل ديغول لمدينة عين تموشنت، وإلقاء كلمته أمام الشعب الجزائري، بحضور عمدة مدينة عين تموشنت «أورسيرو»، وهو ما رفضه سكان المدينة، وكانت البداية لهذه المظاهرات حينما قام شرذمة من المساندين لسياسات فرنسا من المعمرين والموالين لهم في 09 ديسمبر 1960 حاملين لافتات ترحيبية بشارل ديغول، وفي اليوم الموالي 10 ديسمبر 1960، خرجت مظاهرات عكسية من عامة الشعب الجزائري، ترفض هذه الزيارة، وترفض الوجود الاستعماري الفرنسي بالجزائر ككل، رافعين شعارات منها: «الجزائر للجزائريين»، «الجزائر مسلمة»، حيث قوبلت هذه المظاهرات بمواجهة عنيفة من طرف الجيش الفرنسي.
وبعد مظاهرات عين تموشنت وفقا للأستاذ، انتشرت في باقي أحياء ومدن الجزائر ككل، سواء في اليوم العاشر أو الحادي عشر أين زادت حدتها، وانتشرت في النار كالهشيم كما يقال، وقمع الجيش الفرنسي هذه المظاهرات بكل الوسائل المتاحة له، فوقع العديد من القتلى والجرحى، واستمرت مدة أسبوع أيدتها الحكومة الجزائرية، كما استخدمت فيها فرنسا الدبابات والمصفحات والكلاب البوليسية لتشتيت المظاهرات دون مراعاة كرامة البشر ولا من باب الانسانية.
وعن انعكاسات هذه المظاهرات على الشعب الجزائري فقد اعتبرها حمدادو بن عمر منعرجا مهما في تحديد مصير الثورة التحريرية والتي ساهمت في تبيان حقيقة سياسة الاستعمار الفرنسي الجهنمية، فضلا عن إيصال صوت القضية الجزائرية في أكبر المحافل الدولية (هيئة الأمم المتحدة)، كسب التأييد الدولي والتضامن العربي مع الشعب الجزائري وتأييده في تقرير مصيره، وتقديم المساندة والدعم اللامحدود للثورة الجزائرية، من مال وسلاح، وتأكيد العالم ككل على ضرورة التفاف الشعب الجزائر حول ثورته بقيادة جبهة التحرير الوطني وحصوله على استقلاله.
كما سجّلت خسائر فادحة في الأرواح من الطرفين، فمن الجانب الجزائر مثلا: حوالي 800 شهيد، وأكثر من 1000 جريح، واعتقال أكثر من 1400 جزائري مكن النساء والصبيان والشيوخ، إلى جانب بروز الوحدة الوطنية الشعبية في كامل ربوع الوطن ورفع معنويات جيش التحرير الوطني الموجود في الجبال والوديان والصحاري، وأن له مساندة في المدن والقرى تعزّز موقفه، وتخفيف الضغط عنه ومن ثم تشتيت القوات الفرنسية.
الذاكرة الجماعية رهان مهمّ في المسار الحضاري للأمم
من جهته، أشار الدكتور العربي بوعمامة (رئيس قسم كلية الإعلام والاتصال لجامعة مستغانم)، أن المظاهرات حظيت بتغطية إعلامية دولية مما ساهم في إقناع هيئة الأمم المتحدة بإدراج ملف القضية الجزائرية في جدول أعمالها، ومن بين النماذج التي تابعت وكتبت عن هذه الحادثة الهامة نجد أن جريدة المجاهد في تلك الفترة كانت منبر إعلامي كشف عبث الاستعمار وفشل خططه والتأكيد ان المظاهرات حلقة من حلقات النضال الوطني المستمر من الاستقلال التام وكشف خطط الاستعمار الذي حاول تفسير هذا التحرّك الى أسباب واهية ومحاولة إفراغها من جوهرها الحقيقي ومحاولة إرجاعها إلى الفقر وأسباب أخرى لا صلة لها بجوهر القضية. بحيث تمّ تغطية الاحداث بصفة مستمرة وشاملة، والتي حرصت على نقل مجرياتها في مختلف المدن الجزائرية طيلة أيامها، كاشفة عن مختلف ردود الفعل الفرنسية وحرصت في تغطيتها على نشر رسائل التضامن من الدول الصديقة والشقيقة لنضال الشعب وعدالة قضيته.
حيث صدرت على إثرها لائحة الدورة الـ15 للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة يوم 19 ديسمبر من العام نفسه، التي أقرت حق الشعب الجزائري في تقرير المصير، واحترام وحدة الجزائر، داعية فرنسا إلى التفاوض لحل المشكلة. هذا القرار كان نقطة تحوّل كبيرة في مسار الثورة. أما الصحافة الاستعمارية في الجزائر حاولت تفسير الأحداث حسب توجهاتها الاستعمارية المغرضة وتزيف الحقائق.
وفي رسالته للشباب من أجل الحفاظ على هذا الإرث التاريخي العظيم، أكد ذات المتحدث على أهمية التاريخ والذاكرة الجماعية التي تعتبر رهان مهم في المسار الحضاري للأمم، وهو الرأسمال الرمزي الذي يطبع مسار الهوية للشعوب، وتوظيف الذاكرة الجماعية هو أهم رهان الآن لكسب الشرعية والاستقلالية للمجتمعات الحالية.
اليوم نعيش تحولات كثيرة بفعل التطوّر المتسارع في التكنولوجيات الحديثة ووسائط التواصل الاجتماعي وظهور مستجدات دولية ذات أفق استعماري توسّعي يريد تغيير الجغرافيا الحالية ومحاولة زرع الفرقة والاختلاف بين أفراد المجتمع الواحد وكذلك تطرح مسألة صراع الذاكرة وحروب الذاكرة من طرف فرنسا من اجل تغيير الحقائق المخجلة التي قامت بها قواتها اتجاه شعب اعزل.
واليوم نحن أمام تحدّ آخر ينتظر النخب الاعلامية والاكاديمية هو تبليغ هذا الإرث التاريخي للشاب وتحصينهم بالهوية الوطنية الجامعة المانعة التي تخلد الذاكرة والتاريخ لهذه الأمة، يضيف ذات المصدر.