شكّلت منعطفا حاسما في مسيرة التحرير، محفوظ قداش:

المظاهرات الشبانية نفس جديد للثورة

ذهبية عبد القادر

سهلت قبول مبدأ إجراء استفتاء لتقرير المصير

يرى المؤرخ محفوظ قداش في كتابه: «وتحرّرت الجزائر» أن مظاهرات ديسمبر 1960، التي شهدتها المناطق الحضرية للجزائر في شهر ديسمبر 1960، قد شكّلت منعطفا مهما في مسيرة حرب التحرير، لأنها أكدت مرة أخرى وبعد ست سنوات من الكفاح والمعاناة تعلق وإخلاص الجماهير الشعبية للقضية التي تدافع عنها جبهة وجيش التحرير الوطني.


يؤكد الباحث قداش على أن هذه المظاهرات التي انطلقت في أهم المدن خصوصا في الجزائر العاصمة، قد حدثت في فترة كانت فيها جبهة وجيش التحرير الوطني السياسية والعسكرية في وضعية حرجة يتهدّدها الإنهاك، فكانت هذه المظاهرات الشبانية بمثابة نفس جديد للثورة.
يتناول صاحب كتاب «الجزائر في العصور القديمة» في مؤلفه «وتحررت الجزائر» السياق العام لهذه المظاهرات، ويشير إلى أن الوضع في الجزائر العاصمة نهاية 1960 لم يكن على ما يرام، حيث تمّ تفكيك وتشتيت خلايا وشبكات المناضلين وتعطيلها، فساد جو من الإشتباه وكانت كل محاولة للتنظيم عقيمة.
ويقول محفوظ قداش، أنه على الرغم من ذلك فقد حاول بعض المناضلين الأحرار مع مجموعة من المعتقلين الذين أطلق سراحهم الحفاظ على الإتصال بولاياتهم السابقة، ويوضّح الباحث على أنه لم يبق هناك وجود لمنظمة ثورية بمعنى الكلمة بالجزائر العاصمة، فقرّرت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تكليف الولاية الرابعة بتنظيم منطقة الجزائر العاصمة التي أصبحت معروفة بالمنطقة السادسة وقد كلف العقيد محمد بونعامة بعض ضباطه المطلعين على الوضع بالعاصمة بهذه المهمة، وكان من بينهم: بوسماحة، روشاي بوعلام المدعو سي الزبير، جدراوي سعيد، لونيس محمد،الذين وجدوا الوضع في غاية الصعوبة، ولم يستطعوا الإتصال إلا ببعض المناضلين.
ويشير الباحث قداش إلى أن السياسة الديغولية في تلك الفترة كانت تسيطر على الوضع، فقد كان ديغول يسعى لتغليب الحل العسكري بواسطة عمليات «الشرارت» في الحضنة، «جومال» في القبائل الكبرى و «الأحجار الكريمة» في القبائل الصغرى، وأخذ عدة مبادرات سياسية: خطاب حول تقرير المصير في سبتمبر 1959، نداء من أجل وقف إطلاق النار في نوفمبر 1959، جولة الطبقات السياسية في مارس 1960.. ويؤكد محفوظ قداش أن كل هذه المواقف التي إتخذها ديغول لم ترض الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كما أنها أغضبت كثيرا غلاة المعمرين المعارضين لسياسته.

أيام ديسمبر:

يروي المؤرخ قداش في كتابه: «وتحرّرت الجزائر» كرونولوجيا مظاهرات 11 ديسمبر كالتالي:

في 9 ديسمبر 1960، دخلت جبهة الجزائر الفرنسية في إضراب عام إلتزم به جميع الأوروبيين في مدينة الجزائر. ومع ساعات الصباح الأولى سيطر الأوربيون على المنافذ الحساسة لأحياء باب الوادي ووسط المدينة وبلكور، وفي هذا الحي شلت حركة السيارات بعد بقر عجلاتها، وعند الساعة العاشرة، وقعت صدامات بين المضربين ووحدات الجمهورية للأمن، تعالت أصوات ومنبهات السيارات وصيحات «الجزائر فرنسية»، «لاغايارد إلى جانبنا، والجيش معنا». وقعت مشادات تلتها إعتقالات مما أسفر عن جو من التمرّد، إذ إستاء الأوروبيون من صبر ولا مبالاة الاهالي المسلمين.
عند الساعة الثانية عشر إلا ربع، وصل ديغول إلى عين تموشنت حيث جيئ بالعديد من المسلمين وأرغموا على رفع لافتات كتب عليها: «الجزائر فرنسية»، «ونرغب أن نبقى فرنسيين»، ومن هنا ستبدأ الأحداث ويقع الصدام بين الفرنسيين والمسلمين.
عندما هتف المسلمون بخلاف ذلك: «يحيا ديغول» «الجزائر جزائرية»، بدأ التباين واضحا بالنسبة لشعارات «الجزائر فرنسية» و»ضد ديغول» من جهة، و»الجزائر جزائرية» و مع ديغول من الجهة المقابلة.
يوم 10 ديسمبر 1960، إستمرت مظاهرات المضربين تخللها إلقاء الزجاجات الحارقة «المولوتوف» ونصب المتاريس، وحدثت مشادات بينهم وبين مصالح الأمن، وسجلت أولى الصدامات بين المسلمين والأوروبيين بشارع «ليون» في بلكور عندما رفض المسلمون غلق محلاتهم.
في مواجهة استفزازات الأوروبيين، أراد المسلمون الردّ والتظاهر فتدخّل النقيب «برنارد» قائد الوحدات الإدارية الحضرية في «بلكور» وسمح للمسلمين بالتظاهر شريطة أن يهتفوا «الجزائر جزئرية» و»يحيا ديغول» صار عدد الجزائريين يزداد شيئا فشيئا وراحوا يرددون الشعارات المقترحة عليهم، لكن فجأة هتف أحد المتظاهرين «الجزائر مستقلة»، «يحيا بن بلة»، «يحيا عباس»؟ فمن ذلك الشاب الذي كان أول من هتف بهذه الشعارات؟ إنه شاب جزائري،مناضل، معتقل سابق، لم يكشف أحد عن هويته، ورفعت قطع قماش بالأخضر والأحمر معبرة عن ألوان العلم الجزائري.
تواتر الإشاعات أدت إلى وقوع صدامات مع الأوربيين، وتشكلت حشود انتظمت مسيرات وأقيمت متاريس، ورفع الشبان الاعلام، وردّدوا الشعارات، بهت الجيش الفرنسي بسرعة إمتداد وتوسع المظاهرات، فحاصر بعض أحياء المسلمين. إضطرب المظليون لتواجد أعلام الثوار في العاصمة، فلم يترددوا في إطلاق النار، حاول رجال وحدات الجمهورية للأمن منع تدفق المزيد من المسلمين إلى أحياء الأقدام السوداء.
في المساء، إجتمع مناضلون في ملاذ سي الزبير الذي قدّم لهم توجيهات تقضي بتأطير المتظاهرين والعمل على تقوية المظاهرات، وتحديد الشعارات وتجنب الإستفزازات. تم اقتناء قطع القماش لخياطة كميات من الرايات الوطنية، وتمّ تلقين بعض المتظاهرين العبارات التي يجب أن تردّد أمام الصحافيين الأجانب.
في يوم 11 ديسمبر أصبحت المظاهرات أحسن تنظيما،عناصر جبهة التحرير تؤطر الحشود وتؤمن حماية الرايات، بمكبر الصوت تردّد وتذكر شعارات، بعض الشباب يلوح بالراية في مواجهة بطولية مع العسكر المتحمسين لإطلاق النار، يصاب أحد الأوروبيين فيعيش الجميع لحظات مأساوية أعقبت حادثين: وقع الأول في شارع سيرفانتيس، حيث تعرض متظاهرون لإطلاق نار من قبل مظليين بينما تمّ توقيف آخرين، وهم على وشكّ أن يطلق عليهم الرصاص، أما الحدث الثاني فجرى فصوله في نهج ألبير روزيت، أين أوقف تدفّق موجة ضخمة عند مدخل شارع ليون، وستبقى صورة هذا الحشد الموقوف خلف الراية الجزائرية ترمز لإنتفاضة الجزائريين لشهر ديسمبر 1960.
شهدت الأحياء الأخرى مظاهرات بنفس الوتيرة ، فقد اندفع آلاف الجزائريين من القصبة متجهين نحو ساحة الحكومة، تحرك غلاة الأقدام السوداء وأطلقوا النار على الحشد، قبل أن يصدر الجنرال كوجمولت أوامر باستعمال الرصاص، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، لم تعد مظاهرة بل هبة ثورية.
في يوم 12 ديسمبر 1960 واصل المتظاهرون حراكهم ودفن المسلمون شهداءهم. عند مرور مواكب التشييع بأعالي القصبة يردّد الجمع هتافات حددتها جبهة التحرير الوطني، تصل أصواتهم إلى المساجين في برباروس فيرددون معهم نفس الشعارات.
دفعت قيادة المنطقة السادسة شبانا للتظاهر أمام أبواب السجن وهم يهتفون: «حرّروا الجزائر» فلا تتردّد فرقة الحراسة في التدخّل.
يشرع رجال وحدات الأمن الجمهوري في تفتيش المنازل والمقاهي التي يرتادها الأهالي وإزالة المتاريس المقامة في أعالي القصبة التي تغطي جدرانها كتابات، من بينها «تحيا الجمهورية الجزائرية»، «تحيا جبهة التحرير»، «الحكم لفرحات عباس».
عند المساء أصبحت المدينة محتلة بالكامل من قبل الجنود ورجال الشرطة، أعلن عن مواجهات في محيط القصبة، وفي باب الوادي، والعناصر، وفي صالامبي نزل المتظاهرون من جديد عبر منحدر «المرأة المتوحشة»، فسقط من بينهم قتلى وجرحى.
يرى محفوظ قداش، أن مظاهرات أخرى كانت تجري في مدن أخرى، فبدأت في وهران يوم 10 ديسمبر عند الظهيرة بتحركات للأقدام السوداء ثم تبعتها ردود أفعال لمئات المسلمين الذين تدفقوا نحو المدينة الأوروبية وهم يصرخون: «يحيا بن بلة»، «الحكم لعباس»، «تحيا الجزائر المسلمة»، وقع رد فعل نفسه لدى رجال الدرك والشرطة إستهدف المسلمين خصوصا.
 في 11 ديسمبر 1960، إستؤنفت المظاهرات إبتداء من الساعة الحادية عشر، رفعت الأعلام، وتمّ ترديد هتافات ورفع شعارات مناصرة لجبهة التحرير الوطني، وقعت صدامات مع قوات الأمن نجم عنها جرحى وموقوفين. تجدّدت المظاهرات في اليومين المواليين بقسنطينة، حيث هاجم الشبان الأوروبيين الذين كانوا يهتفون بشعار: «الجزائر فرنسية» وحطّموا زجاج السيارات.
في عنابة، تم تفريق مجموعات من المتظاهرين برصاص المظليين، فسقط قتلى وأصيب آخرون بجروح، سجلت مظاهرات أخرى في عدة مدن جزائرية أخرى.
توقفت المظاهرات عمليا يوم 14 ديسمبر 1960، وطال إستعمال القوة، وقد استمر وتوسع ليبلغ حدّ العملية الإنتحارية، فقد كلّف الثورة أكثر من مائة قتيل وخمسمائة جريح، عدا من جرى إخلاؤهم وعلاجهم في مراكز إسعاف تابعة لجبهة التحرير الوطني، بالإضافة لإعتقال مئات المتظاهرين.
ويؤكد قداش على أن  ما تميزت به مظاهرات ديسمبر 1960  هو مبادرة الشبان وتلقائية جماهير المناطق الحضرية، وتدخلات مناضلي المنطقة السادسة الجديدة لجبهة التحرير التي ضبطت سير المظاهرات.
ويشير في كتابه، أن فرحات عباس وجّه نداء جديدا للجزائريين والجزائريات في 16 ديسمبر ودعاهم إلى وجوب إنهاء المعركة، وهي رسالة سياسية كشف من خلالها فضاعة جرائم الإستعمار الفرنسي  ومجد الوطنيين المكافحين وثمّن المعركة الكبرى التي خضوها.

أهمية مظاهرات 11 ديسمبر 1960

يرى قداش، أن مظاهرات 11 ديسمبر كان لها صدى كبيرا في الجزائر  وفي فرنسا وعلى مستوى الأمم المتحدة، مثلما كانت النتائج السياسية مهمة جدا، فقد عبّرت الجماهير الحضرية عن استمرار دعمها للثورة بالرغم من المعاناة والتضحيات.
ويشير إلى أن سكان الحواضر وعلى الخصوص الشبان الذين أظهروا تعلقهم بالثورة، في صورة ُثأرية لمعركة الجزائر، كانوا فخورين لكونهم تمكّنوا من رفع رايات الثورة وترديد الشعارات، وإستعاد المعتقلون والأسرى في المراكز والمحتشدات آمالهم.
وعبّر المناضلون عن سعادتهم لرؤية الشعب يستجيب لتعليمات جبهة التحرير الوطني، وهم متيقنون من النصر النهائي، بينما تلاشت القوة الثالثة التي كان السياسيون الفرنسيون يحلمون بها ولم يعد لها وجود.
ويؤكد الباحث من خلال كتابه، أن الجنرال دوغول إستخلص العبرة من مظاهرات 11 ديسمبر وصرّح بأن «جميع المسلمين وطنيون ومتعاطفون مع جبهة التحرير الوطني.. إننا نعيش جزائر جديدة إنها تتشكّل وستولد، إنها في كامل فترة التطوّر النفسي والسياسي».

 هتاف بلكور نصرا دبلوماسيا حقيقيا

ويقول قداش، أن مظاهرات 11 ديسمبر وسعت من دائرة مساندة الدول العربية والغربية والأسيوية للقضية الجزائرية، فقد تلقت عدة برقيات من الحكومات الصديقة، عبرت فيها عن تضامنها مع الشعب الجزائري . كانت من ضمنها برقية «شوان لاي» الذي عبر عن «سخطه البالغ»، وتيتو الذي أكد على دعم «التطلعات المنطقية للشعب الجزائري»، وجمال عبد الناصر الذي شجب «الإعتداء الفرنسي الشنيع»، فيما جدّد ملك المغرب «تضامنه مع الجزائر الشقيقة»، وبعثت العديد من التنظيمات النقابية ببرقيات تعاطف مماثلة .
ويرى الباحث  أن مظاهرات 11 ديسمبر 1960 قد سهلت في دفع القضية الجزائرية في الدورة الخامسة عشر لهيئة الأمم المتحدة بإتجاه قبول مبدأ إجراء إستفتاء لتقرير المصير تحت رقابة المنظمة الأممية، فقد أعلن كريم بلقاسم أنه سيعبر من على منصة مبنى مانهاتن، عن رغبته في أن يجعل من هتاف بلكور نصرا دبلوماسيا حقيقيا.
 ما دفع بالأمم المتحدة - حسب قداش -، ولأول مرة  للإعلان عن دعمها للقضية الجزائرية ، وتنتبه إلى أن الحالة الجزائرية صارت تمثل تهديدا للسلم العالمي ، وتقبل بتمثيل أي الطرفين في موضوع النزاع أي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من جهة والحكومة الفرنسية من جهة أخرى، والقبول بمبدأ حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، ووحدته ووحدة أراضيه.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024