بالنظر إلى المعطى الاستراتيجي لمظاهرات 11 ديسمبر 1960، مثل استخدام المظاهرات الشعبية كتكتيك وأسلوب جديدين في مواجهة القوة الاستعمارية، امتدادا للضغط العسكري الذي اضطلعت به المواجهات العسكرية، فالضغط الشعبي وبعدما أثبت نجاعته بداية من الإضرابات العمالية وانتهاء بالمظاهرات الشعبية العارمة في المدن، أصبح تحوّلا استراتيجيا في أساليب المواجهة كتكتيك يهدف إلى كشف حقيقة وعدالة القضية الجزائرية للرأي العام الفرنسي والعالمي، وتوسيع دائرة التضامن مع الشعب الجزائري.
يؤكد الدكتور رضوان شافو، أنه حينما اختلف المناضلون الجزائريون حول موعد تفجير الثورة التحريرية وخوض الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي سنة 1953، نطق الشهيد محمد العربي بن مهيدي وقال كلمته المشهورة «إلقوا بالثورة للشارع يحتضنها الشعب».
ويضيف أنه من منطلق هذه المقولةو فإن الشعب الجزائري كان عاملا وفاعلا قويين في انتصارات جبهة وجيش التحرير الوطني ضد سلطات الاحتلال الاستعمارية عبر مختلف جبهاتها التي جنّدتها للقضاء على الثورة التحريرية، إذ لم يكن بمقدور الثورة حين اندلاعها في أول نوفمبر 1954، أن تواصل نشاطها وأن تحافظ على استمراريتها بمعزل عن الشعب الذي كان هو مصدر تموينها وتجنيدها، كما لم يكن باستطاعتها وهي التي كان شعارها افتكاك سيادة الجزائر واسترداد كرامة الجزائريين أن تنطلق في نشاطها العسكري والسياسي متجاهلة قوة الشعب الجزائري في تقديم الدعم اللوجيستي لها.
ويشير إلى أن مظاهرات 11 ديسمبر 1960، جاءت في هذا السياق الذي فرضته ظروف التطوّر السياسي والعسكري الذي شهدته الثورة التحريرية في السنوات الأخيرة من عمرها، وبالخصوص في عهد الجنرال شارل ديغول الذي جنّد مختلف الأساليب السياسية والعسكرية والاجتماعية للقضاء على الثورة الجزائرية والحفاظ على الجزائر الفرنسية.
ويوضح الباحث أن هذه المظاهرات التي تعدّ حدثا تاريخيا بارزا في مسيرة الثورة التحريرية حين اخترقت صمت الأمم المتحدة بقوة التلاحم الشعبي للجزائريين، والذين خرجوا في مظاهرات عبر شوارع المدن الجزائرية حاملين العلم الوطني رمز العزة، مؤكدين بذلك رفضهم القاطع لمخططات الجنرال ديغول وتحطيمهم نهائيا خرافة «الجزائر فرنسية»، حيث سقطت أسطورة التفوّق الاستعماري أمام الرأي العام العالمي، وفشلت سياسة ديغول في القضاء على الثورة، وأيقن خلالها أن الشعب الجزائري لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون فرنسيا ولا الجزائر فرنسية مثلما كان يدعّي الاستعماريون.
وفي ذات السياق، يشير الدكتور شافو الى أن هذه المظاهرات قد تعدّدت أسبابها، غير أن المُهم في هذا الحدث هو استخدام المظاهرات الشعبية كتكتيك وأسلوب جديدين في مواجهة القوة الاستعمارية، فبالرغم مما حقّقه الكفاح المسلح في الجبال والأرياف، إلا أن الضغط الشعبي كان أقوى حينما أثبت نجاعته في إضراب الثمانية أيام من 28 جانفي إلى 4 فيفري 1957، ومعركة الجزائر سنة 1957، وبالتالي فكرت القيادة الثورية بتحريك الضغط الشعبي في المدن الجزائرية، ويأتي هذا التحوّل الاستراتيجي في أساليب المواجهة بإقحام الشعب، بعد انحسار العمل العسكري سنة 1959 في الجبال والأرياف بسبب مخططي شال وموريس على الحدود الشرقية والغربية.
ويضيف أنه، لهذا الغرض قرّر المجلس الوطني للثورة المنعقد بطرابلس أواخر ديسمبر 1959 إلى بداية جانفي 1960، تكوين لجنة مكونة من عبد الحفيظ بوصوف (وزير الاتصالات) عبد الحميد مهري (الوزير المكلف بالعلاقات مع الدول العربية)، قصد التحضير لانتفاضة شعبية ضد السلطة الاستعمارية بالجزائر، وعلى هذا الأساس عملت هذه اللجنة على تشكيل لجان للتحريض والتنشيط والاسناد تتولى دراسة الميدان واختيار أماكن التجمع وصناعة الأعلام الوطنية، وإعدادها وتخزينها في الأماكن القريبة من محطات التجمّع ومراكز الانطلاق للمظاهرات.
ويوضّح أن استخدام أسلوب المظاهرات الشعبية كتكتيك للمواجهة، كان الهدف منه هو كشف حقيقة الاستعمار الفرنسي الإجرامية أمام الرأي العالمي، من خلال تحديه ـ وهو الأعزل - لقوات العدو المدعّمة بالحلف الأطلسي وإحباط كل محاولاته القمعية، زيادة على ذلك ايصال حقيقة وعدالة القضية الجزائرية للرأي العام الفرنسي والعالمي، وقد نجحت القيادة الثورية في ذلك، حيث اتسعت دائرة التضامن مع الشعب الجزائري عبر العالم وحتى في فرنسا نفسها.
فقد خرجت الجماهير الفرنسية في مظاهرات مؤيدة للقضية الجزائرية، أدخلت فرنسا في نفق من الصراعات الداخلية وعزلة دولية في نفس الوقت، الأمر الذي أجبر الجنرال ديغول على الدخول في مفاوضات مع جبهة التحرير الوطني لإنقاذ فرنسا من الانهيار الكلي، وفي ذات الوقت اقتنعت هيئة الأمم المتحدة بإدراج ملف القضية الجزائرية في جدول أعمالها، واستطاعت اللجنة السياسية للجمعية العامة التصويت لصالح القضية الجزائرية رافضة للمبررات الفرنسية المضللة للرأي العام العالمي.