لهيب الثورة وعنفوانها لم يخمد بعد الاستقلال، فتحولت معجزة مقاومة الاستعمار الوحشي وأسطورة الانتصار عليه متكبدا ذل الهزيمة مادة خام حركت الأفئدة وشحذت ملكات الإبداع إلى أبعد نقطة في العالم، وبالرغم من مرور ستة عقود وسبعة أعوام كاملة مازال الأثر حيا والأسطورة شامخة، يستحيل نسيانها ويصعب طمس بطولاتها المذهلة، فماذا قدم المشهد الثقافي الوطني لثورة الحرية على الأقل عرفانا لمن ضحوا بدمائهم ضريبة ليعيش الجزائريون بكرامة وسيادة؟.
يملك الجزائريون وبفخر إرثا ثوريا عظيما، عظمة أكبر ثورة فجرها الأحرار في العالم، إرث يمكن أن يؤسس لسينما وأدب وفن منفصل وخاص بالثورة الجزائرية المجيدة، ولعلّ أغلب الجزائريين الذين دغدغ قلوبهم ووخز ذاكرتهم فيلم معركة الجزائر كانوا يحلمون بمئات الأفلام والمسلسلات التي تبهرهم حيث تسترجع الأحداث التي تكاد تكون خيالا، لكنها في الواقع حقيقة تحكي مفارقات عجيبة لقوة إرادة شعب كان خياره استرجاع الأرض المغتصبة ورفع كبريائه المجروح عاليا، ويمكن القول إننا أجحفنا ومازلنا بعيدين من حيث العطاء لإنصاف تضحيات لم تتكرر، تضحيات حولت الجزائر إلى قبلة للثوار والحرية.
مرجع سينمائي عالمي
عبر كل قرية وفي كل منزل جزائري يمكن سماع قصة بطولية ويستنبط سيناريو تتوفر فيه جميع الأركان من أحداث مذهلة وحبكة وشخصيات، لكن الإنتاج السينمائي والمسرحي والأدبي لايرقى إلى ما صنعته أسطورة الأبطال التي حركت الأقلام وقريحة المبدعين العرب والأجانب، فمن أبرز الأفلام العربية التي تناولت ثورة التحرير، الفيلم المصري «جميلة»، الذي جاء عرفانا بأيقونة الثورة المجاهدة الكبيرة جميلة بوحيرد، وتقمصت شخصية البطلة الفنانة الراحلة «ماجدة»، وبالرغم من أنه جاء باللّهجة المصرية، فإنه قدم صورة مضيئة عن نضال بطلات وأبطال الحرية.
لعلّ من أقوى الأفلام التي أبهرت كل من شاهدها وتركت أثرا في النفس والذاكرة رائعة «معركة الجزائر» الذي يمكن أن يشاهد عشرات المرات، هذا الفيلم يعد تجربة مشتركة أنتجتها الجزائر مع إيطاليا سنة 1966، للمخرج «جيلو بونتيكورفو»، وكان مرجعا سينمائيا.
المفارقة التي جعلت الفيلم ينبض بالحياة أن صانعيه مجاهدون عاشوا الأحداث واكتووا بلهيب نيرانها، علما أن هذا الفيلم يروي جوانب من معركة الجزائر الجزائر، انطلاقا من حي القصبة العريق ونجح في أن يلامس بعمق المقاربة التاريخية للأحداث.
يعترف النقاد أن عشرية ما بعد الاستقلال سجلت انتاج العديد من أروع الأعمال السينمائية، إذ أنتج ما يقارب 24 فيلما بين العامين 1966 و1974، لعل أبرزها فيلم «الليل يخاف من الشمس» سنة 1966، للمخرج مصطفى بديع.
وبالإضافة إلى ذلك قدم المخرج الكبير محمد لخضر حامينا لمسته القوية في تجربة الكوميديا، سنة 1968، في فيلم «حسن الطيرو» الذي مزج بين المأساة والفكاهة بطابع كوميدي، ويحكي الفيلم قصة موظف بسيط تحول إلى رجل ثائر على الاستعمار الفرنسي بشكل إرتجالي، والسبب أن الظروف المأساوية لوطنه دفعته إلى تبني خيار مقاومة المستعمر.
عمل متفرد
يبقى «الأفيون والعصا» الذي أنتج في عام 1970للمخرج أحمد راشدي من أفلام الدراما الثورية القوية حيث يصوّر قصة قرية جزائرية عانت من ويلات الاستعمار وقاومت كل الأساليب الوحشية للمستعمر، وانتقم منها عن طريق إبادتها وصعود من نجا من سكانها إلى الجبال والالتحاق بصفوف المجاهدين.
يصف عديد النقاد فيلم «دورية نحو الشرق» للمخرج عمار العسكري عام 1971، بأنه فيلم رائع وعمل سينمائي متفرد لن يتكرر مرة أخرى في السينما الجزائرية، على خلفية أن الفيلم يعد شاهدا تاريخيا بطريقة درامية على «معركة سوق أهراس» الشهيرة، ينقل محاولة المجاهدين عبور «خط موريس» بهدف توفير تموين الثورة المجيدة، ونجح العسكري في نقل الصورة التاريخية بدقة وأمانة كبيرة لم تختف فيها مشاعر الخوف من الخسارة ممزوجة بشجاعة المجاهدين في أرض المعركة. ولا يمكن نسيان فيلم «أبناء قصبة الجزائر» الذي كرس ذات البطولات التي يمكن لكل بطل جزائري أن يكتب عنه عمل سينمائي.
سينما واكبت الثورة
في هذا السياق، ينبغي استرجاع قول الكاتب «جان ألكسان» في كتابه «السينما في الوطن العربي: «إن السينما الجزائرية هي إحدى المعطيات التي أفرزتها حرب التحرير، بل إن مجموعة من السينمائيين استشهدوا في هذه الحرب منهم معمر زيتون وعثمان مرابط ومراد بن رايس وصلاح الدين السنوسي وعلي جنادي، لقد كانت الحاجة ملحة لإيجاد سينما تواكب مسيرة حرب التحرير التي بدأت عام 1954».
ويصنف جزء كبير من السينما الجزائرية على أنه ينتمي لسينما المقاومة تعكس الواقعية الأسطورية توثق الأحداث والمشاعر وترصد الآلام التي تكبدها الشعب بسبب وحشية الاستعمار، إنها سينما خالدة لا تموت يتوارثها الأجيال بنفس الحرارة والقيمة التاريخية والوطنية.
تحية للأبطال
الكثير من الإنتاج الشعري العربي والجزائري تغنى بالثورة، وتحولت القصائد إلى أغاني يتهافت لسماعها الجمهور العربي، ومنذ اندلاع ثورة التحرير المجيدة والشعراء العرب ينظمون القصائد التي تغنت بالثورة وهاجمت بشجاعة المستعمر، فنجد الشاعر السوري سليمان العيسى قد وصف الثوار الجزائريين بالصقور في إنقضاضهم على المستعمر، وإلى جانب ذلك وصف دوي الرصاص في ساحة الوغى بالزغاريد التي تعلن عرس العروبة وتعيد للعرب مجدهم الذي أراد المستعمر قبره بالغدر والغطرسة والتسلط، وأثنى الشاعر العراقي خالد الشّواف على حرب الجزائر وقال إنها امتداد للنصر العربي بعد قهرها للمستعمر الفرنسي الغاشم.
وتفجرت قريحة الشاعر العراقي عبد الله الجبوري عندما فجّرت فرنسا قنبلتها الذرية في صحراء الجزائر، سنة 1960 قال فيها: « فجري يا فرنسا الذرة فإن الشعب الجزائري له دم عربي يغلي في الحروب، وسيأتي يوم انتقامه من مظالمك».. لأن الشعوب المقموعة ستثور لا محالة في سبيل عزتها وكرامتها.
مشانق المستعمر
ومجد الشاعر العراقي أحمد الدجيلي في قصيدته «تحية أبطال الجزائر «البطل الجزائري، واقترح على جمهور القراء لتحيته، لأنها تعتبر تحية للعروبة التي وضعت على جباهها أكاليلا معطرة من المجد الخالد.
ولا يمكن لأحد أن لا يتذوق قصائد الشاعر الفلسطيني محمود درويش خاصة عندما صّور الجزائر بأنّها ذات كبرياء في كل مكوّناتها واعتبر أن شمس إفريقيا ساطعة على أوراسها في إباء رغما عن أنف المستعمر الظالم والمستبد، وفي أجمل صور نسجها بموهبته الكبيرة أن أشجار الزيتون صارت مشانق للمستعمرين والمستبدين ويقصد بذلك المستعمر الفرنسي.
«وانغمس بدر شاكر السياب الشاعر العراقي في نفس الإطار الإنساني، حيث جاءت نظرته للثروة الجزائرية من هذا المنطق، لأنه في قصيدته «جميلة بوحيرد» صور حجم المأساة الإنسانية المروعة، وما تكبدته من معاناة قاسية لا تطاق في ظل الاستعمار وسط اضطهاد وقهر وظلم، ويمكن لأحرفه وكلماته المؤثرة أن تبعث في النفوس الحقد والكراهية للممارسات اللاإنسانية « والتجاوزات الوحشية التي اقترفها المستعمر في حق أصحاب الأرض.
تبديد ظلمة الآلام
تشع البطولة ذات البعد الإنساني في قصيدة حسن البياتي والتي وسمها بــ « فتى من الجزائر « ونجح في تصوير بطل يتمكن من هزم عواطفه، ولا ينصاع لتضرّع أمه إليه بالبقاء إلى جانبها، فيقول لها: « اتركيني يا أمي فإنّ رفاقي المجاهدين في انتظاري هناك على رؤوس التلال، توقفي سنرجع عندما يلوّح فجر الحرية مشرقا على سحب الآلام مبدّدا ظلمتها».
أما شاعر الثورة مفدي زكريا فقدم الكثير من السخط للمستعمر وقام بتعرية وحشيته وجبنه وتجاوزاته، بل وأكثر من ذلك لأنه برهن للرأي العام العربي عروبة الجزائر وكفاحها، لأنه امتداد لكفاح الأمة العربية ضد الظلم والطّغيان، مؤكدا في كلمته القوّية قوّة القنابل أن العزّ العربي لن يكتمل إلاّ باستقلال الجزائر، حيث ينشد في قصيدته: « فلا عز حتّى تستقل الجزائر».
لم تخلو الرواية والقصة عن لهيب الثورة وعظمة تضحياتها وفضحت ما ارتكبته فرنسا الاستعمارية، ونجح الرعيل الأول من الروائيين من جيل الثورة والاستقلال قد أسسوا للرواية الجزائرية الحديثة وتبعتهم فيما بعد الأجيال التي جاءت من بعد، ومن بينهم عبد الحميد بن هدوقة الذي كتب رواية «ريح الجنوب» ومحمد عرعار الذي قدم رواية «وما لا تذره الرياح» والطاهر وطار الذي اشتهر بروايته: «اللاز»، ولا يمكن نسيان زهور ونيسي المجاهدة والكاتبة الروائية التي نقلت ما عاشته في صفوف الكفاح في إبداعاتها.