عمي علي، الرجل الطيب، المجاهد، الأستاذ، المدير المتقاعد، واحد من الرعيل الأول الذي شارك في صناعة أمجاد الثورة التحريرية المباركة، التحق بالثورة وهو شاب يافع، في بداية عقده الثالث من العمر، ترك عائلته وهو أكبر الأبناء، وقرر أن يلتحق بالمجاهدين، إذ اعتبر جبال المنطقة مسكنه الحقيقي مع إخوانه في الجهاد، كان حديثه عن كفاحه ضد الإستعمار الفرنسي مطولا، لأنه ما زال يحتفظ بأدق التفاصيل خلال تواجده في جبال الشمال القسنطيني، وخلال فترة سجنه في زنزانات سجن الكدية بمدينة قسنطينة ثم في سجن تازولت بمدينة باتنة، وحدثنا بحسرة كبيرة عن قساوة جلادي فرنسا وكل أنواع التعذيب التي تعرض لها.
نهل من القرآن الكريم ما استطاع، وتتلمذ على يد بعض الشيوخ منهم محمد الصالح بن عتيق، لكنه عاد إلى معقله، وهو محمل بعزيمة وإصرار على المشاركة في الثورة، وتحرير الوطن من الهمجية الفرنسية، عاد والتقى ببعض المجاهدين الذين لا يزالون رمزا له في الإخلاص للوطن والتضحية، فالتقى بواحد من كوادر الثورة في المنطقة المجاهد عبد الله دني بمنطقة بوشميسة بأعالي أقوف بلدية السطارة حاليا، ثم الشهيد محمد لحمر بمنطقة تايراو بلدية السطارة أيضا، عبد الله بن طوبال ومجموعة من المجاهدين آنذاك.
«تايراو” محطتي الأولى
في ربيع سنة 1955 انتقلت إلى تايراو لمقابلة المجاهد لحمر محمد وقلت له أن والي أرسلني إليك لتأخذني إلى المجاهدين، ووجدت ابنه المعروف بسي سعد الذي أوصلني إليه، لكن بالرغم من ذلك فالفرصة لم تتح لي بالدخول في صفوف الثوار، لكن إصراري وإلحاحي على عمي عبد الله دني التروي والصبر لأن الثورة ما زالت في مرحلة سرية كبيرة، وما عليه، إلا أن ينتظر موعد خرج المجاهدين إلى الواجهة لتكذيب إدعاءات الجيش الفرنسي التي نعتت المجاهدين بأبشع الصور.
عبد الله بن طوبال يخرج المجاهدون إلى العلن
بتاريخ 16 جوان 1955 طلب مني عمي عبد الله أن اتصل بمجموعة من المجاهدين، وكلفني بخدمتهم، وهو ما أردت استغلاله للدخول في صفوف المجاهدين، اتصلت بالمعنيين وبلغتهم أن عمي عبد الله يطلبهم إلى بيته في بوشميسة، فالتحقوا وحضر أشخاص لا أعرفهم، وقد ترأس الجلسة عبد الله بن طوبال، الذي ألقى كلمة قوية، وكشف أن عدد المجاهدين حاليا في المنطقة 47، إضافة إلى 03 آخرين، وزيغود أحمد المعروف بيوسف، كاتبه الخاص وجندي مكلف بحراسته، فقال بن طوبال إن الثورة يمكنها بمساعدة الشعب سواء كان بالمال والرجال أن يحاربوا فرنسا 50 سنة وينتصرون على فرنسا.
الهجوم على منجمي بولحمام وبودوخة في ليلة اندلاع الثورة
عرفت المنطقة حدثين هامين، في ليلة الفاتح من نوفمبر، الأول الهجوم على منجم بولحمام بسيدي معروف، حيث أنني علمت بهذه العملية من منظميها، وهما سعد لعمامري وصالح مليط اللذان شاركا في العملية، وبالرغم من اتفاق المجاهدين مع الحارس فقد ظن أن المنجم تعرض لهجوم من لصوص فأطلق الرصاص، وهو ما أفشل العملية دون تسجيل خسائر، وكان الهدف من العملية الحصول على المتفجرات والبارود.
أما بالنسبة للعملية الثانية يقول عمي علي، أنها تمت على مستوى منطقة بودوخة التابعة لولاية سكيكدة حاليا، بالهجوم على منجم المنطقة وكان الهدف من ذلك الحصول على المتفجرات والبارود، وعن هذه العملية يقول وجدت في السجن شخصا فرنسيا، اتضح فيما بعد أنه المهندس الذي كان يعمل في منجم بودوخة، وأنه أخبر البعض على اتصاله ببن طوبال لتسليم كل المتفجرات والبارود للمجاهدين، وبعد العملية اكتشفت المخابرات الفرنسية تورطه في العملية وزجت به في السجن.
وتركت العمليتين بصمة العمل المسلح التي أراد المجاهدون أن تكون رسالة واضحة للعدو الفرنسي.
رد فعل الاستعمار على عمليات 01 نوفمبر 1954
كثفت السلطات الفرنسية من عمليات البحث عن المطلوبين بالنسبة لها، وكانت تستهدف بالدرجة الأولى الناشطين في الحركة الوطنية قبل اندلاع الثورة والمثقفين، لاعتقادها أنهم رؤوس هذه العمليات، ووصفت المجاهدين بالخارجين عن القانون، كما قامت باعتقالات في عدة مناطق، وتعمدت تطبيق سياسة العقاب الجماعي بمحاصرة المداشر والدواوير خاصة في المناطق التي تحتضن رموز الحركة الوطنية، فتحاصر السكان أحيانا، وتقنبلهم، أحيانا أخرى، مع ممارسة أعمال الحرق والقتل وانتشار حملات التفتيش في كل المناطق، خاصة في مداخل المدن، كما حدث بمدينة الميلية آنذاك.
كما تمثلت همجية فرنسا في استقدامها للفيف الأجنبي المتكون من عدة منسيات، ومنهم أفارقة، الذين تفننوا في الاعتداءات على السكان داخل منازلهم، خاصة في المشاتي المبعثرة في جبال المنطقة، بداية بقتل كل من يحاول الفرار وأخذ كل شيء، حتى الأغطية والأفرشة، والحيوانات.
الاعتداءات على النساء
وصل الأمر بالجنود الفرنسيين إلى الاعتداء على النساء، وسرقة كل ما تحمله من صياغة وحلي، والتي كانت آنذاك أغلبها من الفضة، ونظرا لبشاعة اعتداءات هؤلاء الجنود على النساء، والتي تكون أمام عائلاتهم، وآبائهم وأمهاتهم وأزواجهم وأولادهم، فقد أصبحت وبمجرد رؤيتها للجيش الفرنسي بتلطيخ أجسادهن بفضلات الحيوانات “الزبل وبوحموم”، ويلبسن ثيابا وسخة وممزقة، حتى لا تظهر زينة المرأة، وإن من يقوم بهذا الأفعال اللا ـ أخلاقية أغلبيتهم من المجندين ـ بحيث كان الجيش الفرنسي يستعمل هذه الطريقة للدفع بالشعب الجزائري إلى الدخول في أفواج “الدفاع الذاتي” كما يسميهم.