استعادة رفات 24 من قادة المقاومة مكسب في «حرب» الذاكرة

صون التاريـخ في صميم أولويـات الدولـة الجزائرية

فتيحة كلواز

 دور استراتيجي للذاكرة في تنمية الشعور الوطني

هو عصب الشعوب وجوهرها ولغة تواصلها مع الأجيال القادمة، واستمرارية أمة كانت ومازالت تكسر الصخر لتبقى ولم ولن تكسرها العقبات أو الأزمات. هو ملف الذاكرة الذي أقسمت الجزائر ألا تفرط فيه لأنه وجودها وسيادتها، فكان وضعه فوق أي شبهة مساومة أو ابتزاز صورة واضحة لكل من تُسول له نفسه التساهل معه، لأنه أمانة أجيال مضت وأخرى ستأتي...
أعطت جزائر ما بعد حراك 22 فيفري 2019 ملف الذاكرة أهمية جوهرية، فبعد دخول الجزائر وفرنسا مرحلة جديدة في نقاشهما حول مختلف الملفات العالقة بينهما، بدا جليا وواضحا إصرار السلطة الجديدة في الجزائر على عدم التفريط أو التساهل في الملف، وهو ما يعكسه تعيين مدير الأرشيف الوطني عبد المجيد شيخي مستشارا للرئيس الجمهورية مكلفا بالذاكرة الوطنية.
لتأتي الإنجازات تباعا، استرجاع جماجم 24 شهيدا من قادة المقاومة الشعبية، استعادة جزء من الأرشيف الوطني الذي استحوذت عليه السلطات المحتلة آنذاك وهربته إلى الضفة الأخرى تحت جنح الليل، بالإضافة إلى إصدار بنك الجزائر عملات ورقية ونقدية تحمل صور مفجري ثورة التحرير وكذا مؤسس الدولة الجزائرية الأمير عبد القادر الجزائري، لتخطو بثبات وعزم في استكمال كل ما يتعلق بالذاكرة الوطنية.     

 بتشريفات عسكرية... الشهداء يعودون إلى أرضهم

شكل استرجاع جماجم 24 شهيدا من أبطال المقاومة الشعبية في القرن 19 محطة مهمة ومنعرجا فاصلا في ملف الذاكرة، الذي اعتبر لسنوات طويلة أكبر عائق أمام فرنسا في الجزائر، فكان يوم 4 جويلية 2021 موعدا احتفى فيه الجزائريون بعودة الشهداء إلى أرضهم، وتكريمهم باستقبال رسمي رسّم استمرارية أجيال كاملة وتواصلهم.
أخرجت الجماجم 24 من متحف الإنسان بباريس لتعود إلى أرضها الطيبة… رجال كتبوا حروفهم من ذهب في كتاب تاريخ الجزائر الفتية، رجال عاهدوا الله على الجهاد حتى الممات، وكما كانوا يقضّون نوم الجنرالات الفرنسيين عند احتلالهم للجزائر، كانوا لأكثر من قرن وصمة عار في جبين من يتصنعون الحضارة والإنسانية، لأن الأبطال لا يهانون حتى في موتهم.
قطعوا رؤوسهم وحملوها في صناديق إلى متحف اصطلح على تسميته بمتحف «الإنسان»، لكنه متحف جرائم ضد الإنسانية كانت الوحشية والبربرية أهم صفاتها، فغِل «المحتل» على أبطال المقاومة جعلهم يحاولون طمس رجال حملوا السلاح في وجه مغتصب الحرية والأرض.
بالرغم من تحول الأبطال لأكثر من قرن إلى مجرد رقم في متحف «العار»، استطاعت الجزائر استرجاعهم وإعادتهم إلى أرضهم بعد تطهيرها من دنس أقدام المحتل المغتصب، ليفَكك أحد أهم الألغام في ملف الذاكرة، وتخلي فرنسا - رغم محاولاتها الدائمة- عن تعنتها بشأن ملف الذاكرة، لأن جزائر ما بعد حراك 22 فيفري 2019 ليست نفسها قبله، فهي لن تقبل ولن تفاوض على أنصاف الحلول.  
وأعطى التستقبال الرسمي والشعبي لجماجم الشهداء. صورة لا تشوبها شائبة عن موقف الجزائر تجاه ملف الذاكرة/ ففي خطابه قال رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، «مضى على حرمان هؤلاء الشهداء من حقهم الطبيعي والإنساني في الدفن أكثر من 170 سنة»، مؤكدا عزم الدولة على إتمام استرجاع رفات المقاومين، حتى يلتئم شمل جميع الشهداء فوق الأرض التي ضحوا من أجلها بأعز ما يملكون، وقال «احتفالات هذه السنة بعيد الاستقلال (2020) ستكون أيضا لحظة من اللحظات الحاسمة في تاريخ الأمة، فهي تتميز باسترجاع رفات مجموعة من شهداء المقاومة الشعبية الأبطال الذين تصدوا لبدايات الاحتلال الفرنسي الغاشم في الفترة ما بين 1838 و1865».
وتضمنت القائمة الإسمية للرفات التي تم استرجاعها جماجم محمد لمجد بن عبد المالك المعروف باسم شريف «بوبغلة» و»رأس محنطة» للضابط الجزائري عيسى حمادي والشيخ بوزيان قائد مقاومة الزعاطشة بمنطقة بسكرة، وموسى الدرقاوي وسي مختار بن قويدر التيطراوي ومحمد بن علال بن مبارك مساعد الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة.

استعادة جزء من الأرشيف الوطني بداية فك الشيفرة

بعد استيلاء فرنسا على كل الأرشيف الجزائري قبل خروجها قبيل الإستقلال، ها هي الجزائر اليوم تستعيد جزءا من أرشيفها المسروق في خطوة تعد مهمة ومفصلية في الذاكرة الوطنية، التي شكلت منذ الاستقلال حجر عثرة في العلاقات الجزائرية الفرنسية. فقد أعلن الإليزيه شهر مارس الماضي عن رفع السرية عن جزء من الأرشيف الوطني، حيث اعتبره المتتبعون خطوة مهمة ومحورية في ملف الذاكرة.
وتعود عملية ترحيل الأرشيف الجزائري من الجزائر، إلى الثلث الأول من سنة 1961، وتمت العملية بشكل سري لأهداف غير معلنة، حيث تم إعطاء تعليمات لمحافظي الأرشيفات العاملين في الإدارة الإستعمارية بالجزائر لنقل الأرشيف، لتنتهي بذلك عملية الترحيل الأولى لجزء من الأرشيف، بعدها بعام واحد فقط أي سنة 1962 قبيل الإعلان عن الإستقلال، جاء قرار ثانٍ بنقل كل الوثائق المكتوبة بخط اليد أو المطبوعة مهما كانت الأهمية التوثيقية والتاريخية التي تكتسيها.
 ويتعلق الأمر بقرابة طنين من المواد الأرشيفية استحوذت عليها السلطات المحتلة، و1500 علبة من الأرشيف الجزائري المتعلق بما قبل الاحتلال الفرنسي أي مرحلة الوجود العثماني في الجزائر في القرنين 16 و17، حيث تتعامل معه فرنسا حسب قوانين تحدد ما هو متاح للإطلاع، فلا يمكن للجمهور الوصول إليها إلا بعد مرور مدة زمنية تتراوح بين 20 و100 سنة، وأخرى تظل سرية للغاية، لكونها مصنفة في خانة الأمن الوطني الفرنسي.  
ولأهمية الملف شكلت الجزائر وفرنسا لجنة مشتركة لمناقشة ملفات مهمة ذات صلة بقضايا الذاكرة والثورة التحريرية، ولعل أبرزها استعادة الأرشيف الجزائري والتعويضات الخاصة بالجنوب الجزائري والمفقودين واسترجاع جماجم ثوار المقاومة الشعبية.  

 لأول مرة… نقود تحمل صورا للشهداء

تقوى الشعور بالوطنية والإنتماء بعد ما تحقق من إنجازات في ملف الذاكرة؛ شعور عززه إصدار بنك الجزائر أوراقا نقدية تحمل صورا لقادة الثور التحريرية ضد الاستعمار الغاشم، حيث تحمل الورقة النقدية والمعدنية صورة لمفجري الثورة التحريرية ليلة الفاتح من نوفمبر 1954، ويتعلق الأمر بالشهداء مصطفى بن بولعيد، العربي بن مهيدي، محمد بوضياف، ديدوش مراد، رابح بيطاط وكريم بلقاسم.
بالإضافة إلى صورة أخرى لمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة وزعيم المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي قبل ما يقارب قرنين من الزمن الأمير عبد القادر الجزائري، وأخرى لـ «مسجد الجزائر الأعظم» في تصريح ضمني ألا تفريط في البعد الإسلامي للهوية الجزائرية.
جاءت تلك الأوراق النقدية والمعدنية لتضع حدا لجدل دام لعقدين من الزمن، بعد أن وضع بنك الجزائر صورا لـ»حيوانات»، اعتبرها الكثير من الجزائريين تقزيما للتاريخ الحافل عبر العصور، بل رأى البعض الآخر أنها إهانة لرموزها عبر مختلف مراحلها التاريخية.
ولدى  إشرافه على إطلاق العملات النقدية والورقية عشية الإحتفال بعيد الإستقلال والشباب، السنة الماضية، قال الوزير الأول السابق عبد العزيز جراد إن «العملة الوطنية رمز من رموز السيادة، لذلك وجب أن تعبر الأوراق والقطع بصدق عن تاريخ البلاد»، مضيفا أن «إطلاق هذه الورقة والقطعة النقدية بصورة مفجري ثورة التحرير وشهيدها أحمد زبانة، هي امتداد لعملية استرجاع جماجم قادة المقاومة الشعبية من فرنسا».

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024