بالرغم من المحاولات المتكررة لمستعمرٍ حاول سلخ واجتثاث شعبٍ من هويته وتاريخه، فشل في فرنسة الجزائر، لأنها وبكل بساطة لم ولن تكون لغير أصحابها، الأرض التي انتزعوها غصبا بالحرق والإبادة والنفي وطمس تاريخها الإنساني منذ آلاف السنين، رفضت أن ترضخ لهم وفككت قنابل التغريب، التحريف والتبشير الموقوتة، لتعلنها بصوت مدوٍّ منذ 1830 «الجزائر جزائرية»، فإن جعلت فرنسا من الأرشيف سريا أو مفتوحا لن يغير شيئا من حقيقة جرائمها المصنّفة ضد الإنسانية.
قال المؤرخ صادق بخوش، عند نزوله ضيفا على «الشعب»، إن قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رفع السرية عن الأرشيف الوطني وتسهيل الوصول اليه ليس مزاجيا، بل مرتبط بالشروط المتعلقة بفتح الأرشيف التي تتراوح بين 50 و70 سنة أو أكثر في حالة بعض المسائل السرية جدا، وكذا الأرشيف الخاص ببعض الأسر والعائلات، حيث يتعلق الأمر هنا بالأرشيف العسكري السري. فقد أعادت فرنسا الأرشيف العثماني للجزائر، بينما بقي جزءٌ آخر منه مفتوحا للباحثين.
الفصل بين السياسة والتاريخ
لاحظ بخوش أن المؤرخ ستورا يلوم الجزائريين على عدم تحديد ما يريدون الاطلاع عليه في الأرشيف بالضبط. وطالب الجزائريين، في التقرير الذي قدمه للرئيس ماكرون، شهر جانفي الماضي، بتوضيح أي مرحلة يبحثون عنها، وما هي الطريقة التي يعطى لهم بها الأرشيف، وهل يريدون الأصول أو الصور أم أقراص؟، تساؤلات وصفها ضيف «الشعب» بالتقنية البحتة، مؤكدا أنها تكاد تجعل من مسألة الاطلاع على الأرشيف السري مفاوضات «إيفيانية» جديدة، ما يجعله تهربا واضحا من الإدارة الفرنسية.
ويعتقد المتحدث أن فرنسا لن تفتح الأرشيف الخاص بجرائم المحتل في الجزائر، لأن قرار فتح جزء من الأرشيف ليصبح وثيقة عادية، مرتبط بانتهاء مدة سريته وليس متعلقا بإرادة سياسية متصالحة ومعترفة بماضيها الاستعماري المظلم.
وأثار المؤرخ في ذات المسألة، ضرورة التعامل مع هذه الخطوة بحذر ووضع فرضية ألا يكون كل الأرشيف صحيحا في الحسبان، فكما تضع فرنسا تساؤلات ونقاط استفهام على بعض المسائل، يجب أن تشك الجزائر أيضا بأن يكون جزء من هذا الأرشيف مزيفا وغير حقيقي.
في ذات السياق، أوضح بخوش ضرورة الفصل بين السياسة والتاريخ والذاكرة. فإن أثارت فرنسا هذه المسألة اليوم، فلعدة اعتبارات، منها انتخابية والوضع الداخلي المتأزم، بالإضافة إلى لوبيات تضغط بكل قوتها على الإدارة الفرنسية من الداخل لتحقيق مصالح اقتصادية، وأمنية، لذلك لا يمكن ربط هذه المسائل الظرفية بمسألة استراتيجية ومحورية هي التاريخ المشترك بين البلدين.
وكشف المؤرخ، ضرورة توضيح العلاقة الموجودة بينهما في إطارها الصحيح، العلمي والتاريخي النزيه، لوجود ظالم ومظلوم، محتلٌّ ومحتلٍّ، قوي وضعيف، فعندما يساوى بين الضحية والجلاد، كما فعل ستورا في تقريره، فقد خرج من السياق الأخلاقي والعلمي والإنساني لكتابة التاريخ. لذلك، لا يمكن الانسياق وراء العمليات الظرفية لهذه الدولة، لأن التاريخ مسألة استراتيجية لا تنازل ولا مبالغة فيها، ولا تجنٍّ ولا تسليم حقوق معنوية فيها.
في هذا الصدد، أكد ضيف «الشعب» أن أجيال اليوم والغد يجب ان تعرف حقيقة ما جرى في بلدهم طوال 132 سنة من الاحتلال وسبب بقاء المحتل لما يزيد عن قرن، وماذا فعل بشعب أراد إبادته عن بكرة أبيه، ليغتصب أرضه ويمحوَ وجوده من التاريخ، وما هي مخلفاته على المستوى الذهني، الاقتصادي والجيوسياسي على أجيال تعاقب وجودهم في حقبة حرجة حاول فيها المستعمر بشتى الطرق قطع الحبل السري الرابط بين الجزائري وأرضه، مؤكدا أن الجزائر لم تتعرض لاحتلال عسكري فقط، بل هو احتلال بكل أبعاده، واستيطاني حاول اجتثاث الإنسان من ذاته، والحقيقة واضحة في أن الجزائر متخلفة اليوم بسبب استعمار فرنسا لها.
تغيير الألقاب جريمة ضد الإنسانية
كشف المؤرخ صادق بخوش، أن الاستعمار الفرنسي لجأ الى التلاعب بألقاب العائلات من أجل تفتيت المجتمع الجزائري وتفكيكه. فقد كان المجتمع في تلك الفترة قبليا كالمجتمعات القديمة. والقبيلة لها نظامها الخاص أو ما يسمى بالتكافل، معتبرا أنه منظومة حياة ومشروع مجتمع الإنسان داخله متصالح مع نفسه وذاته ولغته ودينه، لذلك فكّر المستعمر في هذه الحيلة ليصبح الجزائري يعيش حالة من الاغتراب مع الذات، حيث - ولبلوغ هذا الهدف - تم تغيير الألقاب والأسماء وتهجير الساكنة من منطقة إلى أخرى.
في السياق نفسه، قال المؤرخ إنه حتى تتكامل جريمة الاستيطان الفرنسي، قامت الإدارة الفرنسية بتغيير ألقاب الجزائريين للاستيلاء على الأملاك. فقد كانت في تلك الفترة جماعية وكان لابد من تفكيكها، حيث كانوا ينتزعون الأملاك من القبائل المتمرّدة بإبادتها، كقبيلة رياح والعوفية، وجبال بني صالح، أو نفيها. أما الطرق الأخرى فكانت تفتيت القبائل وتحديد الأراضي وتحويلها إلى ملكيات فردية حتى يسهل اغتصابها وسرقتها.
واعتبر المتحدث عملية تغيير الألقاب جريمة ضد الإنسانية، ولا يمكنها أن تكون «أحد فضائل الاستعمار»؛ الوصف الذي اعتمده ستورا حول الحالة المدنية في الجزائر، التي كانت شفهية في تلك الفترة، حيث كل فرد من المجتمع يعرف شجرة عائلته الى أول جد، ما جعل منه أحد أسباب تفكيك هذه البنية الاجتماعية.
واعتبر بخوش عملية استرجاع الذاكرة الأسرية والانتمائية، حسب شجرة العائلة، بحثا آخر يتجاوز فيه الباحث المرحلة الاستعمارية إلى ما قبلها، فهو بحث عن أصول القبائل وطريقة تطورها وانتقالها. ولاحظ ان المجتمع الجزائري لم يبق على بنيته التقليدية الثابتة، فقد أعادت تشكيله عمليات إبادة ونفي وتشريد، لذلك كانت مهمة إعادة عجنه من جديد أمرا صعبا.
وكشف أنها عملية جزئية من عملية كلية هي كتابة تاريخ الجزائر كاملا، لأن التاريخ ليس حالة حرب وسلام فقط، بل يمس كل مناحي الحياة. فالحديث مثلا عن ثورة التحرير، يجب أن يشمل الجانب الاقتصادي، السيكولوجي، الصحي، التسلح، الدبلوماسية، الفلاحة، التدريس... لأنها منظومة حياتية كاملة وجب التفرع والتدقيق فيها، من أجل حماية تاريخ الجزائر حتى يستوفي هذه المنظومة ليقدم الى الأجيال المتعاقبة. أما التاريخ المشظّى فلن يمنح الجزائري بعده الإنساني الكامل، لأن التاريخ فسيفساء حياة إذا انتزعت قطعة منها تبقى ناقصة وغير مكتملة.