قصّة بطلة من دون قضيّة

سامية في إنسانيتها... قاسمت مأواها مرضاها

هيام لعيون

كلّما اعتقدنا أن الإنسانية قد ولّت في عصر الأنانية، حيث أصبح الكلّ ينادي بـ»نفسي نفسي»، تحت شعار أنا ومن بعدي الطوفان، ثمّة شيء يحدث في كل مرّة في هذا العالم يبدّد هذا الظن، ويخرج بصيص أمل كُتب بعنوان «مرضاي مرضاي».

كانت المرأة سامية قاسيمي، ومنذ قرابة عشرين عاما ملاذا آمنا لمرضى السرطان في الجزائر، وملجأ لمن لا مأوى له، فاتحة ذراعيها وحضنها الحنون للمرضى، للكبير والصغير، للرجال والنساء على اختلاف مشاربهم، احتضنهم مقر «بيتها» بالجمعية التي باتت نزلا للإنسانية التي تجلت في أسمى معانيها، عنوانه الرّحمة والرّأفة.
30 سنة في إنعاش أرواح ذابلة
بطلتنا، هي واحدة من النساء اللائي رهنّ حياتهن لخدمة ضحايا المرض الخبيث... امرأة اختارت الإنسانية سبيلا لها في هذه الحياة، لا ترجو جزاء ولا شكورا، إنما تفضل أن تكون من أصحاب الآية الكريمة: (وإنّـما توفون أجوركم يوم القيامة)، هدفها مساعدة مرضى السرطان في الجزائر، تترأس جمعية «نور الضحى» منذ سنة 2002، حيث قررت المرأة وضع خبرتها وتجربتها ــ وهي التي عملت طيلة مشوارها كمساعدة طبية في إحدى شركات التأمين بالجزائر ــ، تحت تصرف من يتألمون في صمت، من يذرفون دموع الألم؛ دموع المكوث تحت الآلات لساعات طويلة، دموع قهر المرض الخبيث، وكان لها ذلك فأصبح مقرها بالعاصمة ــ الجزائر وسط ــ ملجأ للمتألمين ومقصدا للفقراء ومنزلا للمرضى الوافدين على العاصمة من عمق الصحراء، من تمنراست، من تيميمون، من برج باجي مختار، من ولايات شرقية، جنوبية ووسطى بالبلاد.
المرأة اليوم في الخمسينيات من عمرها، بدأت مشوارها كمساعدة طبية في شركة للتأمينات، ومن هناك انبثقت فكرة محاربة كل أنواع السرطان، بدعم الجمعية الجزائرية للتأمينات أين كانت تعمل، حيث كانت تتأثر لمعاناة المرضى في سنوات التسعينيات من القرن الماضي. فموقف واحد للسيدة قاسيمي من شأنه أن يثير عاصفة إعلامية حول امرأة خرجت من عباءة التنكر والأنانية، وارتدت ثوب الإنسانية، من خلال التكفل بجميع مرضى السرطان الذين يقصدونها بالعاصمة، تقول إحدى المريضات التي تعاملت معها.
تجربة سامية في المجال وإن بدأت فعلا في 2002، إلا أنها تعود الى تسعينيات القرن الماضي، عندما كانت تحتك بمعاناة المرضى، ما شجعها على إنشاء الجمعية في 26 سبتمبر 2002 وكان جناح مكافحة السرطان بمستشفى مصطفى باشا مقرا لها، قبل أن تستقر في دار الجمعية بالعاصمة.
دموع عطف...
 ونحن نتحدث إليها استوقفتنا دموعها الحارة النازلة على وجنتيها، وهي تروي لنا قصّة وفاة شاب عشريني منذ حوالي ستة أشهر متأثرا بمرض السرطان، حيث كان الفيروس اللعين «كوفيد-19» والظروف التي أحاطت بالبلاد من غلق شبه تام، كافية لإطفاء روحه إلى الأبد؛ دموع شاركناها إياها أيضا ونحن نستمع لصوتها الممزوج بعبرات نزلت وهي تقصّ معاناة المرضى أبان عن عطف هذه المرأة غير المحدود.
وفيما كان يروي المقربون منها عطفها وحبها لمساعدة المرضى وعلاقة الحب التي جمعتها معهم، والذين تعاملت معهم طيلة قرابة 3 عقود من الزمن، منذ أن كانت تعمل كمساعدة طبية، لمسنا الأمر من خلال احتكاكنا بها. وبالرغم من أن «كورونا» فيروس دحر الفقراء وزاد من معاناتهم، أبت سامية إلا أن تخوض مرة أخرى الحرب التي أعلنها ضد الفقراء، حيث فتحت ثقبا في سقف الكآبة لتدخل منه الشمس، عبر إنسانيتنا، وعدم ترك أرواحا تذبل في حقبة «الكوفيد»، ونحن نعلم ما خلفه المرض من تدهور في نفسية الأصحاء، فما بالك بالمرضى.
تخبرنا سامية أنها كانت تتصل بمرضاها وتجيب عنهم أيضا بأن لا يخافوا، وأنها ستظل بجانبهم بكل ما تملك من قوة، في وقت خارت قوى كبريات المؤسسات، وانهارت نفسيات أئمة المساجد، مسدية لهم أهم النصائح في التعامل مع الكوفيد، وان الأولوية اليوم هي للمرض الفتاك.
هاتف لا يتوقف عن الرنين و60 مريضا في نزل الإنسانية
في زمن «الكوفيد» كان هاتف قاسيمي لا يتوقف عن الرّنين، مرضى من 35 ولاية، ينقلون مخاوفهم لها، خاصة من لديهم مواعيد للتحاليل أو المراجعة الطبية وغيرها من الأمور المتصلة بالمرض، حيث تحوّلت المرأة إلى «طبيبة نفسية»، تطمئنهم ساعة وتحذرهم ساعة أخرى من خطر التنقل، في ظل بداية انتشار الوباء. لكن ورغم حجم الخوف في تلك الفترة، إلا أن رئيسة الجمعية لم تتخلّ عن واجباتها، وساعدت المضطرين للقدوم الى العاصمة، وهم أصحاب الحالات الطارئة.
وتروي السيدة أنه في فترة الكوفيد، فتحت دار الجمعية لتوفير الحماية وقَدِم مرضى من تونس والقالة والطارف، واحدة منهم طفلة صغيرة مريضة بالسرطان رافقناها بمعية والديها إلى عدة مصالح طبية من عيسات إيدير بالعاصمة، الى سيدي غيلاس بتيبازة لعلاج ابنتهم، لتلخص كلامها بالقول: «نحن عائلة واحدة يجمعنا الدفء».
منذ بداية أزمة «كورونا» استقبلت قاسيمي أكثر من 60 مريضا في «دار الجمعية»، مصحوبين بمرافقين لهم في بيتها بالجمعية، حيث يطلّ المقر على البحر، الذي إن تكلمت أمواجه ستروي «جرائم» السرطان، ويكون البحر شاهدا على المأساة، فلو سألنا اليمّ، فحتما سيستذكر كيف أن الليل يمضي ولا تمضي آهات المرضى، ولا تتوقف دموعهم المنهمرة منشدة موسيقى الألم، والدعوات التي تطلق في جوف الظلام للسيدة التي تحنّ عليهم في عالم القحط العاطفي.
لكن وبعد الجفاف والذي أحدثه «كوفيد-19» ومع استمرار وصول أنين المرضى إلى قلب المرأة، اختارت أن تستقبل مرضى السرطان من مختلف مناطق الوطن، وتستمر في استقبالهم «ببيتها» هم والمرافقون لهم، حيث وفرت لهم كل الظروف الملائمة وجعلتهم أصحاب البيت وهي الضيف.
ترسانة طبية وسفر إلى البقاع
قاسيمي، التي قاسمت مرضاها وذويهم أوجاع المرض، لم تشأ تركهم لوحدهم، حيث اختارت التنقل الى ولايات الوطن مصطحبة ترسانة طبية تتكون من 16 طبيبا، للقيام بحملات تحسيس وتوعية والاستماع لانشغالات المرضى في عز «الكوفيد»، إيمانا منها بروح المسؤولية التي حملتها على عاتقها. وكانت غرداية، بوسعادة بالمسيلة، آخر المحطات. فيما تشدّ الجمعية الرّحال، خلال قادم الأيام، الى بشار وبسكرة، حيث تستريح استراحة محارب خلال الشهر الفضيل، لتعود مجددا الى معركتها ضد السرطان مباشرة.
ولم تتوقف قاسيمي عند هذا الحد، حيث أكدت لنا أنها تكفلت بإرسال 13 مريضا إلى أطهر بقاع الأرض لأداء شعيرة العمرة، وهم مرضى من ولايات سوق اهراس، غرداية، الوادي، العاصمة وبسكرة ومن رقان أيضا. فيما تقيم كل سنة للمرأة المريضة بالسرطان، حفلا رمزيا بمناسبة 8 مارس في مكتب الجمعية، لتوزيع هدايا عليهن وهو ما حدث خلال السنة الجارية أيضا.
كانت سامية قاسيمي واحدة ممن أنعشوا أرواحا ذابلة، قضيتها ليست القضاء على المرض أو لقاء أجر على المساعدة، إنما فضلت أن ترفع قضيتها الى السماء.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024