استقبلنا محمد مقراني، أحد رجالات وزارة التسليح والاتصالات العامة «المالغ» في بيته برغاية، ولاية الجزائر، بوجهه البشوش وتواضعه المعروف، لدى كل من ناضل إلى جانبه. روى لـ»الشعب» ما تختزنه ذاكرته بكل صدق..
لم يترك المجاهد مقراني (وهو حفيد الشيخ محمد المقراني، أحد قادة الثورات الشعبية في منطقة القبائل في القرن التاسع عشر الميلادي) حادثة ولا شخصية ثورية إلا رواها بتفاصيلها، من أب الإستعلامات عبد الحفيظ بوصوف إلى هواري بومدين، مرورا بالملياردير مسعود زقار. استمعت إلى حديثه المشوق عن أول دفعة لسلاح الإشارة بعد ستة أشهر من التربص على الحدود الشرقية وهو من مؤسسيها الأوائل.
لم أكن أعلم أنني سأجد كنزا من المعلومات لدى هذا المجاهد العظيم ذي الـ82 سنة استرجعت معه خفايا أسرار عن مشاركته ورفقائه في الثورة، ذاكرة حية زادتها الصور والوثائق، خاصة الكتاب الذي تدرب عليه ضباط سلاح الإشارة والشفرة، الذي يحتفظ به قيمة لا تقدر بثمن، كانت الذكرى 66 لاندلاع الثورة فرصته ليكسر حاجز الصمت، واختار جريدة «الشعب» الرمز في ذاكرة الجزائر المستقلة لتكون صفحاتها سبيله لتبقى شهادته حية للأجيال وتصبح همزة وصل بين ماض صنع حاضرا هو أول خطوة لبناء مستقبل بدأت معالمه تتضح.
تشرفنا بالجلوس إلى هذا المجاهد ولمسنا فيه المعدن الأصيل للرجال الأحرار، كيف لا وهو حفيد الشيخ المقراني زعيم المقاومة الشعبية.
لم تمنعه هجرة جده إلى تونس في 1872 من الذود عن أرض أجداده، وكان أول الملتحقين بصفوف جيش التحرير بالحدود الشرقية، جاهد بالغالي والنفيس لتحرير أرض أبية ترفض الاستعباد، ليضع بعد الظفر بالحرية سلاحه ويبدأ مرحلة جديدة من الجهاد تشمر فيها السواعد، غير آبه بالمناصب والتشريفات لأنه يؤمن إيمانا راسخا بأن الجهاد للوطن لا يبتغي منه مالا ولا جاها فكان منزله الذي بناه من حر ماله دليلا على تعففه وترفعه عن تلقي ثمن جهاده.
البداية كانت عندما اختارته الحكومة التونسية من ضمن بعض الشبان التونسيين ليضمن حراسة، وأمن رئيس تونس الحبيب بورقيبة، بعد رجوعه من المنفى عن طريق الباخرة في جوان من سنة 1955 وعمره آنذاك لا يتجاوز 16 سنة، وكان يدرس في الثانوية، لكن طوله وبنيته الجسدية كانت توحيان بأنه في العشرين.
كان مقراني يقطن في حي راق بتونس، ووالده يملك فيلا اشتراها من عند أحد الفرنسيين؟ ما تزال موجودة لحد الآن.
كلّف مقراني للذهاب صباحا لمنطقة «لاقولات»، التي تبعد بحوالي 15 كلم، عن ميناء تونس لاستقبال الزعيم بورقيبة كما كانوا يلقبونه، وعند وصول بورقيبة في حدود منتصف النهار، باشر مهمته في البروتوكول الأمني إلى غاية الساعة الثالثة مساءا، وبعدها طلب منه القيام بنفس الإجراءات عند تنظيم مأدبة العشاء على شرف المدعوين بالمكان المسمى»كوليزي»، فهو الذي يوافق أو يمنع دخول أي شخص بالنظر إليه والتحقق من هويته، فقد أصبح مسؤولا عن أمن الرئيس.
وفي الساعة السابعة مساءا
جاء دوره للدخول، لكنه منع من ذلك لأنه جزائري وطلب منه مغادرة المكان بدون افتعال مشكل، وهذه الحادثة آلمته كثيرا فغادر المكان وهو يشهق بالبكاء، خاصة وهو يشاهد بلاده تحت نير الاستعمار، ولا نملك زعيما مثلما الحال في تونس والمغرب، فالجزائريون كانوا يعتبرون أنفسهم أجانب مقارنة بالمواطنين التونسيين حسب ما صرح به عمي مقراني.
وبعد هذه الحادثة طلب منه بعض الجزائريين بتونس الانضمام إلى الكشافة فرفض لأنه لم يكن من إهتماماته، وفي أحد الأيام من سنة 1956 طرق باب منزلهم بتونس وإذا به شخصان تابعين لمكتب الهلال الأحمر بتونس يبحثان عنه لتعيينه في المنطقة لجمع المال والغذاء والأغطية بعد سماعهم بما حدث له مع التونسيين وباشر نشاطه. وفي سنة 1957 عين سكرتير بخلية «لاكانيا» الواقعة في إحدى ضواحي تونس، حيث كان يقرأ الرسائل التي تصل إلى مسؤوله الجزائري الذي كان أميا.
في إحدى المرات، وصلت رسالة تطلب توظيف شباب جزائريين وتدوين كل المعلومات الخاصة بهم في استمارة وحين قرأها على مسؤوله، طلب هذا الأخير منه تسجيل نفسه، وفي ظرف أسبوع وصله استدعاء للحضور على الساعة الثالثة مساءا.
وكما هو معلوم، يقول المتحدث، أن أوامر نظام جبهة التحرير الوطني لا تناقش استعد وطبق. وأشار عمي مقراني إلى أن مشاركة الجزائريين في الثورة كان في سن صغيرة ولا أحد منهم كان يطمع في جاه أو مال أو مسؤوليات، فهمهم من يقدم الأحسن لتحرير الوطن.
أول دفعة لسلاح ا لإشارة سنة 1956
يروي مقراني أنه حين عاد للمنزل لاحظت والدته ملامح وجهه متغيرة، وتساءلت عن سبب ذلك، فجمع منشفته والصابون وكل ما يحتاجه دون أن يخبر عائلته بوجهته. حين وصل إلى مكتب استقباله وجد الشاحنة بانتظاره وهي نفس الإجراءات المعتمدة في الجهة الغربية.
وأخذ مقراني رفقة شباب على متن شاحنة نحو إقامة بئر باي، حيث مكثوا طيلة أسبوع وكل يوم يصل شاب إلى أن بلغ عددهم 14 شابا.
وفي اليوم التالي ركبوا الشاحنة للتوجه إلى مكان لا يعلمونه وطيلة المسافة وهم يتساءلون عن مصيرهم وإلى أين يقتادون، قائلا: «جلست عند مدخل الشاحنة لمعرفة وجهتنا وقلت لزملائي نحن نسير في نهج قرطاج، عند مفترق الطريق إذا اتجهت الشاحنة نحو اليمين فنحن ذاهبون إلى مكان مملوء بالأسلاك الشائكة المكهربة والألغام والموت حليفنا لا يمكننا النجاة، أما إذا اتجهت نحو اليسار فهذا معناه أننا ذاهبون للدراسة بالقاهرة».
بقيت الشاحنة تسير حتّى الواحدة ليلا، إلى أن وصلت الشاحنة إلى المكان أين يوجد جنود حاملين السلاح، وعند مدخل المكان الذي كان عبارة عن مزرعة يقابلها ساحة كبيرة وراءها إسطبل للبقر فيه طاولات كبيرة، حيث تم تهيئة المكان ليكون مرقدا للنوم، وقضى الشباب ليلة هناك وكل واحد فيهم يقلد أصوات الحيوانات لأن المكان في الأصل كان إسطبلا وفي الساعة الخامسة فجرا كان الجميع مستيقظا، أُحضرت لهم الملابس الخاصة وتناولوا فطور الصباح الذي كان عبارة عن قهوة مع رغيف خبز.
وهنا يتوقف عمي مقراني برهة ويرينا ألبوم وثائق وصور أثناء تربصه سنة 1958 بالمدرسة التطبيقية لسلاح الشفرة والإشارة بالحدود الشرقية رفقة زملائه بغرفة الإتصال مازال يحتفظ به إلى الآن، ثم يقول: «على الجهات المعنية الاتصال بنا لنسلمها الوثائق ونريها خميرة الثورة، كيف اندلعت ورجالها المخلصين وكيف كنا نتدرب. للأسف لا أحد يهتم بتاريخ الثورة العظيم».
ويضيف مقراني أن عبد الحفيظ بوصوف كان له هدفا من إنشاء وزارة التسليح والاتصالات العامة، حيث شرع في إنشاء سلاح الإشارة أولا ثم فروع أخرى، وكانت أول دفعة للإشارة سنة 1956، كلهم كانوا مصلحي جهاز الراديو، مشيرا إلى أنه بعد ستة أشهر من التربص كان لابد من إنشاء مصالح واختصاصات أخرى، ومن سلاح الإشارة أنشئ سلاح الشفرة.
لكن لم يكن هناك عناصر للقيام بمهام الشفرة، فكان الجنود المتربصون يقومون بمهمتين في نفس الوقت، ومن سلاح الإشارة أنشئت مصالح اليقظة وضد الجوسسة على رأسها عبد الرحمان بروان الملقب بالسفر، ومصلحة التوثيق والمعلومات وعلى رأسها محمد خلاف الملقب بالطاهر.
وأشرف الرائد عمار واسمه الحقيقي علي ثليجي على سلاح الإشارة، وسميت جامعة الاغواط بإسمه، ومعه عبد الكريم حساني الملقب بالغوثي وبوزيد عبد القادر الملقب بأبو الفتح، هذا الأخير هو الذي أشرف على تأسيس الشفرة، ويعتبر الأب الروحي لجهاز الشفرة، حسب شهادة المجاهد، وأول دفعة للشفرة كانت في الشرق ثم أضيف لها شفرة من 1 إلى 56.
ويروي الدبلوماسي أن الشهيد العقيد لطفي زارهم في معسكر التربص وكان كلامه كله رفع المعنويات بأنهم شباب مستقبل الجزائر، ويعول عليهم في تحرير الوطن.
ويذكر مقراني أن من بين المسؤولين بوزيد عبد القادر المدعو أبوالفتح الذي قال لهم كلمة بلهجة أهل وجدة وعلى اعتبار أنهم شباب لا يدركون معناها وهي: «لقد دخلتم بأرجلكم إلى هذا المكان، خروجكم يكون برأسكم». ويضيف «لم نفهم وعندما خرجنا للساحة تساءلنا عما كان يقصده، فشرح لنا أحد الرفقاء بأن معناها أننا دخلنا أحياء أما الخروج لا نفكر فيه أبدا وسيكون إلا موتى»، ويقول محدثنا أنه في تلك اللحظة فهموا ما كان يردده المسؤولون يجب حفظ أسرار الثورة.
بقي عمي محمد من سبتمبر 1958 إلى غاية فيفري 1959، بعدها تم إخراجه من المجموعة الخاضعة لتربص سلاح الإشارة، ليتم وضعه في مكان آخر لتعلم الشفرة.
كان إنشاء أول دفعة للشفرة بهذه العناصر بعد تربص دام ثلاثة أشهر، حسب المجاهد، الذي يقول إن تعلم الشفرة لم يكن بالأمر الهين فهو فن وموهبة مثل الموسيقى.
وأضاف أنه بعد نهاية التربص أرسلوا للعمل ست ساعات يستقبلون الرسائل من كل الولايات والحدود الشرقية والغربية والمركز الوطني للإشارة الذي يجمع القاهرة، طرابلس، بنغازي ومرسى مطروح والبعثات الدبلوماسية كلها تصب عندهم، إضافة إلى كل ما يتعلق بالجانب الدبلوماسي والحربي.
كانت هناك نشرية المعلومات اليومية والأسبوعية والشهرية، والنشرية الحربية، التي بها معلومات حول التراب الوطني، من اشتباكات، كمائن، عمليات التمشيط، تصل إلى المركز مشفرة ويقوم الجنود بحل الشفرة وتوظبيها وتسلميها لمحمد يزيد وزير الإعلام آنذاك وهو بدوره يسلمها لعيسى مسعودي يوميا، ولصوت العرب بالقاهرة.
أما النشرية الأسبوعية وتحلل فيها المعلومات المتحصل عليها خلال الأسبوع ونهاية الشهر وتدون في نشرية واحدة وتسلم لمحمد يزيد لإرسالها إلى الإذاعات وهيئة الأمم المتحدة.
في شهر ماي 1958، أرسل عمي مقراني رفقة زملائه إلى المركز الوطني للإشارة في الكرم، وهو مركز سري يقع ضواحي تونس، حيث يمنع عنهم الخروج، ثم نقل إلى غاردماو وهي قرية صغيرة يقابلها جبل، أين إلتقى بزملائه وهم ثلاث طلبة ينتمون للدفعة الخاصة بسلاح الإشارة.
سلمه مسؤول المركز تكليف بمهمة وتم تعيينه لإنشاء دفعة الشفرة في قيادة الأركان شرق ولأول مرة سلاح الإشارة مستقل عن سلاح الشفرة، يقول محدثنا. آنذاك كانت قيادة الأركان في الغرب يسيرها العقيد هواري بومدين والشرق يسيرها محمدي السعيد المدعو سي ناصر، وكان عمي مقراني ينشط تحت إمرة سي ناصر.
تعرف مقراني آنذاك على مسؤولي قيادة الأركان وهم العقيد سي ناصر ثم مصطفى بلوصيف كسكرتير قيادة الأركان شرق، وفي سبتمبر 1959 يتلقى أمرا بحزم أمتعتهم والتوجه نحو معسكر ملاق الذي يبعد بـ160 كلم عن غار دماو، للخضوع للتدريب على السلاح ثم يرسلون نحو الولايات الداخلية. بقي هناك إلى غاية شهر ديسمبر من نفس السنة، لأن هيكلة إنشاء جيش التحرير الوطني كانت تتطلب تغييرا حسب متطلبات وتطورات الحرب، ولهذا تم استدعاء المجلس الوطني للثورة، والاجتماع يكون في طرابلس يحضره القادة الموجودين شرقا وغربا ثم الحكومة المؤقتة وبعض من القادة الذين يعتبرون أنفسهم ذوو وزن في ولاياتهم.
بومدين أعاد تنظيم فيالق جيش التحرير بالحدود الشرقية
ويروي عمي مقراني أنه عند تنظيم اجتماع مجلس الثورة هم لا يعرفون القرارات الصادرة عن هذا المجلس، لهذا جاءهم أمر بالعودة إلى قيادة الأركان بغاردماو، وكانت لديهم أجهزة تتطلب نقلها عبر الشاحنة، فكان المسؤول عن المعسكر يدعى النقيب عبد المومن رفقة مسؤولين آخرين، قائلا:» قبل مغادرتي المعسكر أردت أن أودع النقيب عبد المومن وأقدم له التحية على استقباله لنا، لكن زملائي رفضوا المجيء معي بالنسبة لهم هو نوع من المحاباة «قالولي روح اضرب الشيتة»، فجوابي كان «من باب الاحترام والأخلاق يجب شكر من علمنا».
ذهب مقراني لإلقاء التحية ولأول مرة يتعرف على العقيد هواري بومدين الذي صافحه وضرب له موعدا على الساعة الخامسة مساءا، حيث طلب منه تقديم التقرير حول الوضعية، ويضيف محدثنا أنه نهاية سنة 1961 طلب منه الذهاب إلى تونس رفقة مجموعة من ضباط الإشارة لتغطية اجتماع مجلس الثورة في طرابلس.
هذا الاجتماع كان يمر على عناصر المالغ وكل الوثائق والمحاضر توضع تحت تصرفهم، حيث استبدل خلال الاجتماع فرحات عباس بيوسف بن خدة، وبعد انتهاء الاجتماع عاد عناصر المالغ لقيادة الأركان بغار دماو لمواصلة نشاطهم.
وبحسب محدثنا، شريان الحروب هو سلاح الإشارة.
وأشار مقراني إلى أن هناك ثلاث شاحنات واحدة تنقل رسائل قيادة الأركان من تونس إلى الحدود الشرقية، والشاحنة الثانية تنقل الرسائل من تونس إلى طرابلس، والثالثة من طرابلس إلى القاهرة والعكس صحيح. كان تنظيم في نقل الرسائل، مؤكدا أن بومدين ورث التنظيم العسكري عن بوصوف وكان ذكيا لا يتكلم كثيرا، تقرأ كل شيء في عينه التي تُنزل الرعب في كل من ينظر إليه، بفضله أعيد تنظيم فيالق جيش التحرير الوطني بالحدود الشرقية التي كان يشرف عليها نخبة من الضباط مثل عبد الرحمان بن سالم وزرقيني وشابو، والهاشمي هجرس، وأنشئت المنطقة الشمالية بقيادة الرائد عبد الرحمان بن سالم ومساعده الشاذلي بن جديد والمنطقة الجنوبية بقيادة الرائد صالح السوفي ومساعدين محمد علاق وسعيد عبيد.
يروي مقراني حادثة بيان الحكومة المؤقتة الذي قرأه عيسى مسعودي عبر راديو القاهرة في حدود الساعة السادسة مساءا وكان يستمع له بومدين وعلي منجلي والدكتور نقاش. يقول البيان: «لقد تقرر عزل كل من العقيد هواري بومدين والرائد علي منجلي والرائد سليمان وتجريدهم من جميع مناصبهم». عند سماع البيان لم ينطق بومدين ومن معه ببنت كلمة ودخلوا حجرة وبقي الدكتور نقاش وحده، والكل محتار من هذا البيان خاصة وأن مسؤولهم بومدين معهم في المعسكر ما يزال لم يعطي الأوامر.
هنا يتدخل مقراني ويحدث زملاءه على ضرورة تطبيق المادة المتعلقة بعدم تدخل عناصر سلك الإشارة والشفرة في أي نزاعات سياسية ويجب بقاءهم على الحياد، لأنهم ينتمون للجزائر المكافحة.
في الساعة الثانية فجرا يأتي شخص يطلب من مقراني تصفية أحد ضباط الإشارة يدعى علي بومغار، لكن محدثنا رفض ذلك وطرد المدعو إبراهيم بلعيدي، لأنها مؤامرة استغلت الصراع بين الحكومة المؤقتة وقيادة الأركان لخلق الفوضى بين ضباط الإشارة، مثلما يقول.
ومن تلك اللحظة منع مقراني أي شخص أجنبي يضع أقدامه بمعسكر ضباط الإشارة، لكنه تعرض للعقوبة بالامتثال أمام المحكمة العسكرية وبما أنه نزيه وبريء من أي تهمة خيانة لم يطبق عليه الحكم.
في جوان 1962، انتقل مقراني رفقة عناصر المورس إلى مكان آخر عبارة عن أرض محروثة تقابلها غابة خال من الماء والأكل لا وجود لسيارة ولا شاحنة، وكان لزاما عليه إيصال الرسالة إلى العقيد بومدين خاصة وأن الإستقلال على الأبواب لدرأ نار الفتنة بين الشعب الجزائري.
بقي مقراني ينتظر مرور شاحنة أو دراجة، وإذا به يلمح شاحنة من بعيد ثم شرع رفقة زملائه في إطلاق النار لإثارة انتباه صاحب الشاحنة الذي توقف بعدما سمع طلقات الرصاص. كانت وجهته تسليم الخبز للجنود فطلب منه محدثنا إيصاله إلى المكتب السياسي للرائد عبد الرحمان بن سالم، وحين وصل وجد بومدين رفقة علي منجلي وعبد الرحمان بن سالم يتحدثون مع العربي الميلي الذي انشق عن صوت العرب «صالح بوبنيدر»، وكانوا يوصونه بإقناع صوت العرب بالكف عن بث الفتنة بين أبناء الشعب، لأن الإستقلال قادم.
سلم مقراني الرسالة إلى بومدين وبقي خارجا ينتظر الرد، بعدها بقليل خرج بومدين رفقة علي منجلي وبن سالم وزرقيني ركبوا سيارة من نوع جيب تاركين عمي مقراني دون وسيلة نقل تعيده إلى المركز الذي كان فيه، ولولا تفطن علي منجلي الذي عاد أدراجه لأخذ مقراني لبقي هناك، فركب محدثنا السيارة.
يمكن القول أنه كان من ضمن من دخلوا مع قيادة الأركان واجتازوا الحدود إلى غاية وصولهم إلى عين زانة وهي منطقة استشهد فيها خيرة الجنود الجزائريين، بعدها دخلوا إلى سوق أهراس.
وفي طريقهم لمحوا مزرعة عليها العلم الجزائري وكانت تلك المزرعة تأوي جنود الفيلق 17 التي يشرف عليه عبد الرزاق بوحارة، حيث استقبلهم الجنود بحرارة وكانت فرحة بالإستقلال.
وبعد أن قضى بومدين ليلة هناك وغادر في الصباح، وجد مقراني نفسه وحيدا مع بلوصيف فقرر العودة إلى منزل عائلته بتونس، وحين وصل إلتقى صدفة بأحد الخونة الذي حكمت عليه جبهة التحرير الوطني بالإعدام يدعى مصطفى بن شاوش، ولحسن حظه أنه نجا من الموت وهو عميل استعملته فرنسا وكان مندسا وسط ضباط سلاح الإشارة الذي قبله بسبب نقص العناصر.
هذا ما أثار غضب عبد الحفيظ بوصوف عندما إلتقى به في إحدى المقاهي بتونس فصرخ في وجه بن شاوش وطرده.
وحسب مقراني، هو من حمل قرار إعدامه الذي أمضاه العقيد بومدين، وما أثار استغراب محدثنا هو أن عبد الحفيظ بوصوف ناداه بإسمه وكان يعرفه من بين مئات عناصر المالغ. ومن مميزات بوصوف أنه حين يعين مسؤولا يطلب صورته فقد كان يملك ذاكرة قوية جدا، لا يوجد نظيرا لها في الوقت الحالي.
لكن أب وزارة التسليح والإستعلامات كان لا يملك منزلا، فقد تخلى عنه بعد الإستقلال رفقاء السلاح وكل من دربهم، فساعده مقراني بمنحه فيلا والده ليسكن فيها مجانا خاصة وأن بوصوف لم يكن يملك مالا.
يشير محدثنا إلى أن بوصوف رفض العيش في فيلا والده لأنه لا يملك المال لدفع الكراء، لكن بعد إلحاح عليه قبل أن يسكن فيها، وبعد الإستقلال بالتحديد سنة 1964 عين مقراني في القاهرة مع الأخضر الإبراهيمي، وألح عليه بوصوف للعمل معه لكن محدثنا رفض لأن له إلتزامات اتجاه وطنه.
وقد أثنى عمي مقراني على الأخضر الإبراهيمي والطيب بولحروف اللذان كانا مدرسة حقيقية وتعلم كثيرا منهما.
الجزائر أصرت على تعيين أحمد الشقيري في الجامعة العربية
يروي مقراني أنه بعد الاستقلال وبالتحديد بتاريخ 8 أكتوبر 1962 انضمت الجزائر رسميا إلى هيئة الأمم المتحدة وأول اجتماع تحضره الجزائر كدولة مستقلة في الجامعة العربية. طلب منه الحضور رفقة محمد الطيب العلوي، وبأوامر من الجزائر أرادت تعيين أحمد الشقيري في كرسي فلسطين، الذي بقي فارغا بعد وفاة صاحبه، وهذا تكريما للشقيري الذي قدم مساعدة لا توصف ولا مشروطة وكان الصوت الساطع للجزائر، لكن الدول العربية رفضت وعلى رأسها السعودية لكن بفضل حنكة الأخضر الإبراهيمي الذي تحدث لمندوب الأردن وأخبره أن الشعب الجزائري هو الذي طلب أن يكون الشقيري ممثل فلسطين، وبالفعل هذا ما تم.
المجاهد والدبلوماسي محمد مقراني بعد القاهرة من 1962 إلى 1965، انضم لبلغراد (يوغسلافيا سابقا) من 1967 إلى 1970، وسفير ببغداد بالعراق من 1971 إلى 1972، وأخيرا سفيرا بالمملكة العربية السعودية من سنة 1972 إلى 1977، وأحيل بعدها على التقاعد.
وفي سنة 1990 انضم إلى جمعية مجاهدي التسليح والاتصالات العامة «المالغ» الذي يعتبر من مؤسيسها. وفي سنة 1998 أسس مؤسسة الشيخ المقراني قائد المقاومة الشعبية التي تهتم بالجانب التاريخي لهذه الشخصية وبقي وفيا لخدمة الوطن...، تركنا مقراني على أمل العودة ثانية لإخراج ما بقي في جعبته من «أخبار الثورة»، التي لم تكتب بعد.