حل الأزمات يتطلّب مستوى من الذّكاء الجمعي
شكّلت التّصريحات المتضاربة حول تفشّي وباء «كوفيد 19» عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحلقة الأضعف في العملية الاتصالية، الأمر الذي رهن دور وفعالية اللّجنة الوطنية لمجابهة «كوفيد 19»، وصل إلى حد التّشكيك في الأرقام والنّتائج التي تمنحها بشكل دوري، الأمر لم يتوقّف هنا، حيث وقفت بعض الوسائل الاعلامية على طرفي النقيض وراحت هي الأخرى تبث الشّكوك وتغذّي الأخبار المغلوطة لتكون مادة إعلامية دسمة يتناولها الفضاء الرقمي، وهو ما وصفه المتحدّث لـ «الشعب» الدكتور محمد بغداد، أستاذ جامعي، بـ «لحظة انهيار المجتمعات واندثارها، ليس بسبب ما تعرّضت له من أزمات، ولكن بفعل حرمانها من المدد» النفسي والمعرفي والاجتماعي الذي توفّره المؤسّسات.
- الشعب: حذّرت وزارة الاتّصال من التّضليل الإعلامي وخطاب التّهويل المعتمد من طرف بعض وسائل الإعلام، كيف يمكن حسم ذلك في ظل تضارب التّصريحات الجانبية المتعلّقة بوباء فيروس كورونا؟
الدّكتور محمد بغداد: من طبيعة الأزمات أنّها تخلّف هلعا وسط المجتمع ﴿إنّ الإنسان خلق هلوعا إذا مسّه الشر جزوعا وإذا مسّه الخير منوعا﴾، وتزداد المشكلة تعقيدا إذا فقد المجتمع حيوية المؤسّسات التي تمدّه بالطمأنينة وتساعده على التّخفيف من وطأ الأزمة، والكثير من المجتمعات انهارت واندثرت ليس بسبب ما تعرّضت له من أزمات، ولكن بفعل حرمانها من المدّد «النفسي، المعرفي والاجتماعي» الذي توفّره المؤسّسات.
إنّ المنغصات التي أفرزها الوباء كشفت عن عجز كبير تعاني منه مؤسسات المستأمنة على المجتمع، ويتطلّب الأمر المسارعة إلى يقظة ضمير وشحذ همم واشتغال عقل لتبدأ عملية بث الروح في هذه المؤسسات، وجعلها تستعيد دورها التاريخي، لأنّ كورونا سيزول في يوم من الأيام، إلاّ أنّ المشكلات التي سيخلّفها سيكون لها أثرها الغائر «المؤلم والمكلّف جدا»، ونحتاج إلى المسارعة إلى الاستعداد لمواجهتها.
- هل تدخل معالجة الخبر من مصادره الموثوقة الرّسمية في سياق التّهويل أيضا على غرار تصريحات الأطباء، مديري المؤسسات الاستشفائية، مخابر التحاليل؟
القاعدة المقدّسة في الإعلام تقول «الخبر مقدّس والتّعليق حر»، ولكن المشكلة التي نعانيها في حياتنا الإعلامية اليومية، لا تكمن فقط في علاقة الصحفي مع مصادر الخبر، وإنما المشكلة في الذهنية الجمعية التي لم تكتسب المهارات والقدرات الكافية للممارسة اليومية التي تجعلنا نتعايش معا مهما كانت الاختلافات في وجهات النظر وأساليب التعامل مع الظواهر، بسبب أنّنا مجتمع لم يقرّر بعد الانخراط في مجتمعات المستقبل، وليس عندنا الاستعداد المناسب لتحمل تكاليف ذلك الانخراط.
- يقتصر عمل اللّجنة على تقديم معلومات متعلّقة بمجابهة «كوفيد 19»، لكنه لا يتطرّق إلى العجز الذي تعرفه مستشفياتنا في استقبال عدد الإصابات المرتفع، هل التطرق إلى هذه الجوانب يعرّض الصحفي إلى عقوبات؟
المعلوم من الحياة بالضرورة أن مواجهة الأزمات مهما كانت، يتطلب مستوى من الذكاء الجمعي يحوّلها من مستوى «الأزمة المشكلة» إلى مستوى «الفرصة المنحة»، ونظرا للمستوى الذي بلغته البشرية من التقدم والاحترافية في مواجهة التحولات الكونية، أصبح من القواعد المعتمدة أنّ «الأزمة مهما كانت» يتم التعامل معها بمستويات من الذكاء والمهارة والقدرة التي تتجاوز مستويات الشخص الواحد أو الفئة الواحدة، وأن الاستثمار في ثروات الذكاء الاجتماعي وتوريط خبرات ومواهب الفئات الاجتماعية وفق خطة بارعة وسلسة بإمكانه تحويل الأزمة إلى منحة.
لكن المشكلة التي نواجهها اليوم تتجاوز العثرات التي نشاهدها في الممارسة الإعلامية اليومية، كوننا لم ننتقل من مرحلة الصحفي إلى مستوى الإعلامي، ولم نخرج من مستوى الهيكل إلى مساحة المؤسسة.
الاطلاع على المعلومات، معرفة الأخطار والقابلية للإصابة الموجودة في مكان الإقامة والنشاط والعلم بترتيبات الوقاية من الأخطار الكبرى المطبقة في مكان الإقامة نصّت عليها المادة 11 من قانون الإعلام، لماذا تحتكر الجهات المخوّلة منح المعلومة دون غيرها من الجهات الأخرى «أقصد اللجنة الوطنية لمجابهة كوفيد 19»؟
يجب أن نعترف بأنّنا من المجتمعات التي لا تتعلّم بسرعة من الأحداث الطارئة التي تواجهها، وقد كشف «كوفيد 19» هذه الخاصية التي لم نتخلّص منها بعد، في الوقت الذي نجد فيه مجتمعات أخرى تمكّنت في وقت قصير من التكيف والاستفادة من هذه الجائحة، خاصة في مجال الإعلام والاتصال ممّا يجعل المسؤول عندنا يقبع في «دائرة الموظف البيروقراطي»، وبالرغم من الثورة الكونية لتكنولوجية الاتصال لم تخضع الإدارة عندنا إلى تلك العمليات الجراحية التي تخلّصها من شوائب البيروقراطية، واليوم نكتشف أنّنا بحاجة إلى هذه العمليات الجراحية التي ستكون مؤلمة ولكنها حتمية.
- هل عندما تتعرّض الصّحافة إلى هذه الجوانب خرق للقانون؟
في الأزمنة التى تكون فيها المجتمعات تعيش فترات الانتقال، تظهر الكثير من التناقضات ويبرز الخلط بين المفاهيم، كون الصراع الذي تخوضه الفئات الاجتماعية يغلب عليه الخلط والفوضى، وهنا نجد أنفسنا أمام نقاش وهمي يضيع معه الكثير من الجهد، ويهدر فيه الثمين من الوقت مثل الخلط بين الحرية والممارسة.
فالحرية قناعة ذاتية وتربية أخلاقية ومسؤولية اجتماعية، والممارسة اليومية سلوكات بشرية يحكمها القانون مهما كانت طبيعة هذا القانون ونوعية السلطة التي تنفذه، والخلط بين الحرية والممارسة في مجال الإعلام يأتي من ذلك الفراغ الرهيب الذي خلقته المراحل السابقة من التعليم والتكوين، ممّا يجعل هيجان الاندفاع وزوال المسؤولية تمظهرات تبرز في الفترات الانتقالية لبعض المجتمعات، لتجد نفسها بعد زوال هذه الفترات أنها فقدت الكثير من الوقت وضيعت الباهظ من الجهود دون أن تكسب شيئا.
- ما هو تقييمك لدور الإعلام في ظل الجائحة؟ وهل استطاع تقديم الدّور الذي ينتظره المواطن؟
من السابق لأوانه الحديث عن تقييم المجهود الإعلامي في ظل الظروف الراهنة، وسيأتي الوقت المناسب الذي يسمح بتقييم موضوعي، إلا أن هناك مؤشرات مقلقة ظهرت في الممارسة الإعلامية الحالية في مقدمتها النكوص الكبير عن المرجعية الوطنية الإعلامية التأسيسية التي رسم معالمها جيل ألرواد وتحولت عبر السنوات إلى هويّة إعلامية خاصة بنا، كما برزت الارتجالية والاندفاع العاطفي والتسرع السلوكي، وتراجع القيم الاخلاقية وتدني المستوى الاحترافي، ممّا يجعل من الضروري مراجعة الكثير من المسائل خاصة التكوين الإعلامي،كون المؤسسة المستأمنة على العقل الإعلامي الوطني والضمير المهني أخلت بالتزاماتها العلمية والتاريخية.