محطات مفصلية وأحداث مهمة مرت بها الجزائر منذ استقلالها، ساهمت في بلورة المشهد السياسي وتشكيل واقعه، كما هو عليه اليوم ولعل الإصلاحات السياسية أبرز منتجاتها، في هذا الحوار سنحاول مع محمد عمرون أستاذ العلوم السياسية بجامعة مولود معمري بتيزي وزو التطرق لأهم الإصلاحات التي شهدتها بلادنا، وضرورتها لإحداث الإصلاح العميق المنشود خلال المرحلة القادمة خاصة ونحن مقبلون على الانتقال للجمهورية الثانية.
- «الشعب»: عايشت الجزائر منذ استقلالها تحولات اجتماعية واقتصادية أثرت على المشهد السياسي، ما هي أبرز محطات الإصلاح السياسي في بلادنا؟
الأستاذ محمد عمرون: أولا، يجب القول بأن عمليات الإصلاح السياسي داخل النظم السياسية قد تكون نتيجة إرادة داخلية من النظام، أو نتيجة ضغوط البيئتين الداخلية أو الخارجية، وقد تجتمع أحيانا كل هذه العوامل من أجل الدفع بالإصلاحات السياسية، في الجزائر، ومنذ الاستقلال، عمليات الإصلاح السياسي غالبا ما كانت تحت ضغوط البيئة الداخلية.
ولعل أبرزها على الإطلاق هي إصلاحات سنة 1989، والتي جاءت عقب أحداث 5 أكتوبر 1988، حيث أدخل النظام السياسي تغييرا عميقا في طريقة إدارته للحياة السياسية والاقتصادية، فمن نظام بحزب طلائعي واحد حاكم، إلى نظام تعددي ديمقراطي، ومن اقتصاد اشتراكي موجه إلى نظام رأسمالي متفتح، وهو بذلك كان الإصلاح الأعمق في تاريخ الجزائر إلى حد الآن.
اليوم، وبعد حراك شعبي مشهود، انطلق كتعبير عن رفض منظومة سياسية باتت مأزومة، أين استطاع هذا الحراك تحييدها من المشهد السياسي، يجد النظام السياسي الجديد نفسه أمام حتمية تقديم إصلاحات سياسية يستجيب من خلالها لضغوط بيئته الداخلية وتطلعات الشعب الجزائري، وهنا كلما اقترب النظام السياسي الحالي من ملامسة حقيقية لمطالب الشعب، وتجسيدها في إصلاحات سياسية عميقة، كلما اتجهنا إلى حالة من الانفراج والانخراط الشعبي والحزبي والمدني في هذا المسار، ليكون حراك فيفري 2019 ثاني حدث مفصلي في تاريخ الجزائر وإصلاحاتها السياسية.
وفي الأخير يجب الإشارة، إلى وجود إصلاحات أخرى عرفها النظام السياسي سابقا، سواء مع دستور 1996، أو دستور 2016، وقبل ذلك ميثاق 1976، لكنها كانت إصلاحات بعيدة عن إحداث تغيير جوهري في فلسفة وتفكير النظام السياسي.
@ ما تقييمكم لمسار الإصلاحات التي عرفتها الجزائر، وكيف ساهمت برأيكم في نضج وبلورة الرؤية السياسية؟
@@ في الحقيقة، حراك 2019 أكد بأن كل الإصلاحات السياسية التي عرفتها الجزائر لم تستطع أن تصل بنا إلى بناء نظام سياسي متوازن، بسلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية مستقلة وفعالة، كما أخفقت هذه الإصلاحات في بناء دولة الحق والقانون، هذا الإخفاق مرده إلى ثلاث نقاط أساسية في اعتقادي.
الأولى وهي غياب الإرادة السياسية الحقيقية، لدى صانع القرار في إحداث تحوّل وإصلاح سياسي مؤثر، فكثيرا ما كانت الإصلاحات عبارة عن «لحظة إصلاحية مؤقتة» ناتجة عن بيئة ضاغطة وليس عن قناعة راسخة بضرورة الإصلاح، فبمجرد زوال البيئة الضاغطة، يعاود صانع القرار إنتاج نفس السلوكات السابقة التي أدت للأزمة، فعوض أن يكون الإصلاح خطي تقدمي يصبح عبارة عن دائرة مفرغة نعود دائما فيها لنقطة الصفر.
النقطة الثانية: هي فشل النخب السياسية الحاكمة والمعارضة في بناء مؤسسات قوية، فعندما يفشل البرلمان لعقود في تشريع قانون واحد وهو المؤسسة المخول لها ذلك، وعندما تعجز الأحزاب السياسية عن أداء وظائفها السياسية اتجاه مناضليها والمواطنين، ويتحول المجتمع المدني إلى ناطق باسم السلطة التنفيذية عوض أن يكون همزة الوصل بينها وبين المواطن، عندها، يتحول أي إصلاح مهما كان عميقا إلى مجرد جسد بلا روح، ما دامت هذه الفواعل السياسية ليست في مستوى النص ولا الإصلاح.
النقطة الثالثة: مرتبطة بالمشاركة الشعبية في هذه الإصلاحات، فغالب الإصلاحات التي تمت في الجزائر، كان الشعب الجزائري مغيب وبعيد عنها نتيجة حالة الاغتراب السياسي الذي كان يعاني منها المجتمع الجزائري، وبالتالي لم يشعر بأنه معني بهذه الإصلاحات بالرغم من أنها موجهة له بالدرجة الأولى، وهو ما زاد من اتساع الهوة، وعدم الثقة بين النخبة السياسية (حكما ومعارضة) وبين الشعب الجزائري.
اليوم، نحن الجزائريون أمام فرصة تاريخية جديدة للشروع في عملية إصلاح سياسي عميق نغير من خلاله فلسفة الحكم في الجزائر، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وإذا ما استطعنا تحقيق النقاط الثلاث السابقة من إرادة سياسية جادة وجريئة، إلى تجديد كبير في النخب السياسية، مرورا بضمان مشاركة أكبر للشعب الجزائري في أي عملية إصلاح قادمة، فإننا من دون شك سنكون أمام مسار صحيح لبناء دولة مؤسسات قائمة على الحق والقانون.
- طموحات كبيرة يعلقها الشعب الجزائري على المرحلة القادمة ولعل تعديل الدستور أحد أولى خطواتها، ما رأيكم؟
بالفعل، الحراك الشعبي رفع عاليا سقف آمال وطموحات الشعب الجزائري، وأمام السلطة السياسية اليوم مسؤولية تاريخية من أجل تحقيق هذه الطموحات والآمال، والدستور باعتباره وثيقة أسمى للدولة الجزائرية يعتبر أحد المؤشرات التي يمكن من خلالها أن نقيس مدى جدية السلطة السياسية في الدفع نحو مسار إصلاحي عميق.
فمسودة الدستور وبحسب عنوانها، تبقى «مسودة» اجتهدت فيها اللجنة في تقديم تعديلات في كل أبواب الدستور من الديباجة إلى غاية الأحكام الانتقالية، ما يؤكد على الأقل من جانبه الشكلي حدوث تعديل عميق لدستور 2016، من الناحية الموضوعية، هناك نقاط إيجابية يجب التذكير بها جاءت بها مسودة الدستور، الأولى توسيع دائرة الحريات والحقوق العامة باقتراح 23 مادة جديدة تكرس للحقوق والحريات، كما أن توسيع دور المعارضة في البرلمان قد يعطي نفسا لهذه المؤسسة التشريعية الخاملة، تأسيس المحكمة الدستورية ودسترة المؤسسات الرقابية، كلها نقاط يجب أن تثمن.
بالمقابل هناك نقاط تحتاج إلى مزيد من النقاش الوطني، خصوصا ما تعلق بطبيعة النظام السياسي، حتى وإن كانت اللجنة قد قدمت تبريراتها لاختيارها النظام شبه الرئاسي، مسألة نائب الرئيس وإرسال وحدات من الجيش خارج الحدود والإبقاء على مجلس الأمة، كلها قضايا أثارت نقاشا «صحيا» داخل المجتمع، تحتاج منا جميعا لمزيد من النقاش والتحليل، ومن اللجنة والسلطة مزيدا من الاقناع.
في الأخير، يجب الإشارة إلى أن الدستور هو أحد مظاهر الإصلاح وليس كله، فبقدر حاجتنا إلى دستور توافقي جامع مكرس للحقوق والحريات، بقدر ما نحتاج أيضا في ظل العملية الإصلاحية إلى قطيعة نهائية مع الرداءة السياسية والفساد والمحاباة وكل مظاهر التخلف السياسي والاقتصادي السابقين.