أرست قيادة الثورة نظاما صحيا فعالا بقي لما بعد الاستقلال، مساهما في ضمان تغطية صحية شاملة مجانية بعد المعاناة والظروف القاسية التي خلفها الاستعمار الفرنسي في حق الشعب الجزائري، ولكن رغم المعاناة وضعف وسائل العلاج في تلك الفترة الصعبة إلا أن عملية التجنيد والتطوعي لم توقفها الإدارة الاستعمارية، بل استمرت مساهمات الأطباء ومختلف المخلصين للوطن بالرغم من قلة عددهم في التكفل بالجرحى والمرضى بين المجاهدين، وحتى المدنيين بإمكانيات منعدمة إلى غاية استرجاع السيادة الوطنية.
شهد قطاع الصحة مع بداية الكفاح المسلح نقصا كبيرا على مستوى الإطارات، ومختلف وسائل العلاج، في الوقت الذي كان فيه المجاهدون يواجهون جيشا مدجّجا بأحدث التجهيزات، الأمر الذي دفع القائمين على إدارة شؤون العمليات العسكرية والسياسية إلى التحضير لبناء جهاز طبي، وتوفير الأدوية وتدريب الموارد البشرية بإشراف أطباء وممرضين أكفاء ودمجهم في صفوف جبهة التحرير الوطني لإسعاف المصابين وضحايا الألغام، فكان دورهم بارزا ومميزا وفعالا في المجال الصحي.
المختص في الصحة العمومية، الدكتور فاتح بن أشنهو، أكد أن النظام الصحي مر بعدة مراحل، أصعبها كان في فترة الاستعمار الفرنسي في ظل غياب الإمكانيات وحتى الأطباء، واستمرت المعاناة إلى أن استجاب طلبة جامعات الطب لنداء الثورة التحريرية، الذين لم يترددوا في تقديم الدعم والمساهمة بقوة في التكفل بالمجاهدين الجرحى، والقيام بأصعب العمليات الجراحية في الجبال وبوسائل منعدمة، إلا أنهم كانوا في المستوى المطلوب واستطاعوا إنقاذ العديد من المرضى رغم الظروف الصعبة، ونقص تكوينهم الذي كان كثيرا ما يعوض بإخلاصهم للوطن وتفانيهم في خدمته.
أخطر الأوبئة عاشها الجزائريّون في الحقبة الاستعمارية
قال الدكتور بن أشنهو إن ما ميز المجال الصحي في تلك الفترة الحساسة من الكفاح ضد العدو الغاشم يكمن في التنظيم المحكم والعمل الذي كان في سرية تامة، بالرغم من حالة الحرب وقلة الإمكانيات المتوفرة على المستويين المادي والبشري، بالإضافة إلى القيادة الثورية التي استطاعت أن تقدم خدمات جليلة لجيش التحرير الوطني والمدنيين من أفراد الشعب، نظرا للحاجة الماسة لإسعاف المجاهدين وإنقاذهم من الموت، حيث سارعت قيادات الثورة إلى التنسيق فيما بينها بالاعتماد على إمكانياتها المتواضعة لإيجاد حلول لعدة مشاكل، خاصة ما تعلق بنقص الإطارات والإسعافات الأولية الاستعجالية وجمع الأدوية، وكل ما يخص التضميد وأدوات ووسائل الجراحة الخفيفة.
وذكر المختص في الصحة العمومية الذي واكب تطور المنظومة الصحية، أن الجزائر شهدت خلال الحقبة الاستعمارية أخطر الأمراض والأوبئة، وتسبب عدم وجود لقاحات ضد الأمراض المعدية إلى حدوث كوارث صحية، ولكن حملات التوعية التي كان يقودها المتطوعون في تلك الفترة لم تتوقف، إذ ساهموا في نشر الوعي والتربية الصحية.
زيادة على التقنيين الذين كانوا يتنقلون إلى الميدان لإجراء بحوث عن الأوبئة، مشيرا إلى مساهمات بعض المختصين الذين كتبت أسماؤهم بأحرف من ذهب على غرار البروفيسور العرباوي وشولي وجانيت بلخوجة الذين وقفوا إلى جانب المجاهدين، غير مبالين بالكارثة الصحية التي ورثت عن الاستعمار إلى أن أصبحت الجزائر دولة مستقلة لا يحرم فيها أي مواطن من خدمات صحية مجانية ودون إقصاء.
الطب المجاني أهم ميزة...ومكافحة السل تجربة رائدة
عرفت مرحلة ما بعد الاستقلال ــ حسب المختص في الصحة العمومية ــ تطورا ملحوظا في مجال الخدمات الصحية مقارنة بسابقتها بفضل العمل المتواصل والمجهودات المبذولة، وتمكنت الجزائر من النهوض بالمنظومة الصحية من خلال تعزيز الصحة الجوارية، فأصبحت السباقة في النظام الصحي الجواري، زيادة على تطبيق نظام الطب المجاني والقضاء على الكثير من الأمراض والأوبئة كالسل والشلل الذي كان يصيب الأطفال وخفض نسبة الوفيات أثناء الولادة، بعد أن عاش الشعب الجزائري حرمانا صحيا كبيرا، مذكرا بالانجازات المحققة، من بينها اختيار المنظمة العالمية للصحة في أواخر الستينات الجزائر كتجربة رائدة في القضاء على داء السل وكنموذج ناجح في العلاج.
ويأمل الدكتور بن أشنهو عودة القطاع إلى السكة الأصلية، واحترام أهداف الثورة من أجل خدمة الجزائريين بسواعد وطنية كفؤة، بعد أن انحرف عن مساره الحقيقي في ظل تدهور الخدمات الصحية مجددا، جراء سياسة التسيير المتبعة والتي لم ترقى إلى المستوى المطلوب رغم توفر إمكانيات العلاج من أدوية وتجهيزات طبية، بالإضافة إلى تخصيص الحكومة ميزانيات ضخمة للتكفل بقطاع الصحة، مؤكدا أن النظام الصحي الجزائري نشأ في ظروف صعبة، ولكن بفضل تفاني الأكفاء تحول إلى الأحسن على جميع الأصعدة ولكن سرعان ما عاد الانهيار مجددا - على حد تعبيره - الأمر الذي يستدعي تعزيز العمل الميداني مثلما كان في السابق، والعودة إلى الأهداف التي سطّرتها الثورة.