وقفت الجزائر «صامدة» وما تزال في وجه حملات «يائسة» تقودها أطراف يحركها الحنين الاستعماري، لضرب استقرارها ووحدة شعبها، تحت نفس شعار قوى الإحتلال «فرّق تسد»، فالحرب هذه المرة ليست مواجهة مباشرة بين قوتين إحداهما محتلة ظالمة، والأخرى تدافع عن سيادة أرضها، ولا باستعمال الأسلحة الفتاكة، بل بين قوى غير مرئية -وان كانت معروفة- تشن حربا على العقول و تحاول استنزاف كل ما له امتداد بالهوية لضرب وحدة الوطن، وتكوين فرد دون روح دون انتماء يمكن احتواءه والتحكم فيه و تحريكه في أي اتجاه، وكأنه قطعة شطرنج، أو ورق شجر الخريف تذروها الرياح أينما تريد.
برز خطر الحرب المستمرة على الهوية الوطنية التي تقودها أطراف داخلية وخارجية بشدة في السنوات الأخيرة، ووجدت في مواقع التواصل الاجتماعي أرضا خصبة لحمي وطيسها، وفي الشباب وقودا و ذخيرة حية لتحريك فصل آخر من فصولها، و أداة لتحقيق أهداف معلنة و أخرى خفية تعد امتدادا لتلك التي حددتها القوى الاستعمارية، ولم تنجح في الوصول إليها عندما استباحت الأرض و العرض، لأنها تكسرت على صخرة «الوحدة الوطنية».
استهداف مكونات الهوية الجزائرية، ليس حملة وليدة اليوم، بل تعود إلى الحقبة الاستعمارية حيث تفنن جنود الاحتلال و قادته في استعمال كل الوسائل و الإمكانيات لطمس مقوماتها، وجندوا لأجل ذلك كل الخبراء و القسيسين، لتغيير اللسان العربي، وطمس الدين الإسلامي، وافتعال أزمة عرقية بين العرب والأمازيغ، لتفكيك بنية المجتمع وتسهيل التحكم في مقدرات الشعب وخيراته، رغم أن التاريخ يشهد على انصهارهم في بوتقة واحدة أخذت من الأمازيغي عزّته ومن العربي الشهامة والشجاعة تحت ظل الإسلام وسماحته، وذابت كل الخلافات الموجودة في أذهان «المعتدين» فقط من أجل وحدة الوطن.
الاهتمام بالذاكرة واجب وطني مقدّس
يعتبر الدكتور حسين عبد الستار، أستاذ محاضر بالمدرسة العليا للأساتذة- بوزريعة، في حديثه لـ «الشعب» الذاكرة الجماعية خزانا لثقافة الشعوب وتاريخه، حيث تمد هذه الذاكرة الجماعية الشعوب والمجتمعات بالسلوكيات والمواقف والقيم، وذاكرة الجزائر مليئة بالأحداث والبطولات الّتي تمتد بجذورها في أعماق التاريخ، انصهرت خلالها الشخصية الجزائرية وتشكّلت بما تحمله من مقومات، ومكنتها من صون هويتها الّتي لا يمكن لأحد أن يتخطاها أو يتجاوزها، رغم استهدافها الّذي تكرر عبر التاريخ، ولازال لاسيما وأن حديثنا عن الذاكرة الجماعية يأتي في سياق هذه الهجمة الشرسة على هوية وذاكرة الأمة، وما رافقها من هجمات إعلامية على الجزائر وثوابتها ومؤسساتها من أعدائها في الداخل والخارج.
لذلك يرى الدكتور حسين أن الاهتمام بالذاكرة الوطنية في هذا الظرف بالذات واجب وطني مقدس لا يقبل أي مساومة، لأجل تحرير تاريخنا من الذهنية الاستعمارية، ومن أجل صيانة هويتنا الوطنية، وتحصين الأجيال بالوعي التاريخي وفق إستراتيجية مدروسة ترتكز على إعادة كتابة تاريخنا الوطني وتفعيل ذاكرتنا الجماعية بما يخدم أهدافنا الإستراتيجية، وعمقنا التاريخي ونحرص كل الحرص لإيصاله للأجيال القادمة بالطريقة الصحيحة لنخلق منهم أجيالا متشبعة بالعزة القومية والمجد الوطني، تعتز بتاريخها وتفتخر بأجدادها وماضيها ومُحبة لوطنها، ومحافظة على أصالتها وهويتها وثقافتها بجميع مكوناتها مستعدة لرفع التحدي.
لكن مثل هذا البناء للشخصية الوطنية يتطلب -بحسب الدكتور حسين- إرادة سياسية قوية بقرارات جريئة، وأن يستعيد التاريخ مكانة مرموقة في منظوماتنا التربوية والاجتماعية وفي مناهجنا، وان ترافق النخب المختصة للبرنامج السياسي للذاكرة، في ما يجب أن يفعل دور المجتمع المدني ليقدم القيمة المضافة، وأن يكون الإعلام الأداة الفعلية في هذا التوجه بأن تمنح للذاكرة والتاريخ الأولوية على باقي البرامج، ولا شك أن تجميع الجهود وتركيز الاهتمام ببحوث تاريخ الجزائر ككل لا تاريخ الثورة فقط يكتسي أهمية بالغة في مشروع التنمية الوطنية وهو من الموضوعات الإستراتيجية للدولة الجزائرية.
وحتى نحافظ على الأجيال القادمة في ظل التحديات القائمة، ينبغي تفعيل أكثر جسور التواصل بين جيل الأمس و جيل اليوم، الذي يقع عليه مسؤوليات عظيمة لتأسيس نظام الوقاية والحماية ونظام الأمان، فالرهان المستقبلي هو صيانة أمن وسلامة واستقرار الجزائر، وانسجام المجتمع ثم الإستعداد للرهانات الاقتصادية الكبيرة التي تحتاج لزيادة درجة وعي الشباب، عن طريق تعزيز المكونات الأساسية للهوية الوطنية و ترقية الموروث الحضاري و الثقافي، والاقتداء بأثر العظماء من أبناء هذا الوطن و بقيمهم الخالدة، حتى نستمر في شق طريقنا نحو المستقبل ليمكننا من المقارعة الناجحة لكافة التحديات، من أجل جزائر آمنة مستقرة محفوظة السيادة.
الموروث الحضاري والحماية القانونية
يقول المحامي وعضو المجلس الدستوري سابقا عامر رخيلة لـ «الشعب»، إن من بين الأشياء التي تعرضت فيها الجزائر للمسخ والتشويه ومحاولة القضاء عليها هي مقومات الشخصية الوطنية، من لغة، عقيدة، هوية، انتماء حضاري و ثقافي، ومن بين التحديات التي واجهتها منذ استرجاعها استقلالها، هو محاولة ازالة ترسبات الاستعمار في مكونات الشخصية الوطنية والتشويه والتهميش ومحاولة غرس أفكار و نظرة دونية في عقول الجزائريين اتجاه السلوكات العقائدية الجزائرية و المقومات الثقافية للمجتمع الجزائري من عادات و تقاليد و ثقافات، و هي أصلا في ذاتها تمثل عناصر مكونات الشخصية الوطنية.
وأضاف رخيلة أن الفراغ الدستوري الذي عرفته الجزائر من سنة 1965 إلى غاية 1976، رغم أنها حققت في هذه الفترة عدة انجازات في الجانب المادي كبناء قاعدة متينة للاقتصاد الوطني، إلا أنه من حيث تقنين حماية مقومات الشخصية الوطنية لم يكن محل إهتمام، ربما بفعل الزخم الثوري الذي كان موجودا والبرنامج المجتمعي الجاري تنفيذه، واعتبرت كأن المشرع الدستوري غير ملزم بتقديم ضمانات لحماية مقومات الشخصية الوطنية.
لكن بدءا بدستور 1976 مرورا بدستور 1989 و 1996 إلى غاية 2016 بدأت الساحة القانونية والقضائية تعرف تأمين مقومات الشخصية الوطنية، وأعطت نوعا من القدسية بالنسبة للعقيدة الإسلامية، واللغة، والرموز الوطنية كالعلم والنشيد الوطني، والوحدة الوطنية، والخيارات الأساسية في مختلف المجالات.
ومع ذلك يقول أن المتغيرات الموجودة في العالم وانعكاساتها على الساحة الوطنية، ناهيك عن الصراع الثقافي والفكري والإيديولوجي الذي كان لديه عدة تأثيرات، يفرض علينا في هذه المرحلة التوجه إلى الاهتمام بالبحث في أبعاد الشخصية الوطنية، خاصة و أن الأمازيغية أحد العوامل المكونة لها تعد مكسبا وطنيا لأنه أزال سببا من أسباب التوترات في البلاد ووفر الحماية لعدم استغلالها داخليا وخارجيا، ولكن هذه الدسترة والحماية القانونية ينبغي أن يقابلها صرامة من القضاء الجزائري، و السياسيين و الإدارة الجزائرية حيال أي تلاعب أو استغلال من طرف القوى، لأنه لا يمكن لأي مقوّم من مقوّمات الشخصية الوطنية مثل اللغة أن يكون في متناول فئة معينة أو يحتكر من قبل فئات تريد أن تنصب نفسها وصية عليه، نفس الشيء بالنسبة للأمازيغية و نفس الشيء بالنسبة للإسلام.
وسجل رخيلة ظهور نزعة جديدة، و محاولات استغلال عناصر الهوية الوطنية أمام التغيرات التي تحدث في المجتمع الجزائري، لذلك يجب أن نتجه إلى تطبيق الأحكام الدستورية و حتى القانون العضوي لردع ومنع أي محاولة استغلال لهذه العناصر، فلا يعقل أن ينص دستور 1989 على أنه لا يمكن لأي حزب سياسي أن يقوم بالظهور على أساس لغوي أو ديني، ومع ذلك يتم السماح بظهور الأحزاب السياسية على أساس عوامل لغوية ودينية، لذلك لابد من صرامة في تطبيق الدستور والقوانين، وأن تلتزم السلطة بوضع ضوابط و قوانين تحكم المجتمع.
كما لابد أن تكون مقومات الهوية الوطنية الثلاث ثراء للشخصية الوطنية و ليس لتفكيكها في إطار مجتمع موحد، و حيز جغرافي محدد، وتحت علم واحد، ونشيد وطني، وعلينا أن نجعل بيان أول نوفمبر بيان تأسيسي لكل المجتمع الجزائري، وليس لجهة أو طرف من الأطراف.
واقترح رخيلة لتحصين الهوية الوطنية، فتح نقاش حول مقوماتها حتى لا يتم استغلالها من أطراف معينة، و القضاء على كل التوترات، فالمجتمع عليه أن يواجه حركة «الماك» و منطقة القبائل يجب ان تكون في طليعة المتجندين، لأن عدم إفشال مخططات هذه الحركة سيفتح المجال لظهور حركات أخرى خاصة و أن فيه محاولات بالجنوب ومنطقة الغرب الجزائري، وعلى الدولة أن تواجه هؤلاء بحزم، حتى تعود الأمور إلى نصابها، وتحصن الشباب لأن هذه القوى تستغل أوضاعهم الاجتماعية الصعبة، والقصور الفكري والسياسي الموجود حتى عند بعض النخب لنفث سمومها وجرهم إلى مستنقعها.
وختم بالقول أن بناء مجتمع ديمقراطي يضمن المساواة بين جميع المواطنين، يقتضي تحقيق تعميق أهداف ثورة نوفمبر وفق نهج سوي، ووضع دستور للجمهورية الجزائرية، لأنه منذ سنة 1963 والدساتير توضع للأشخاص، وحان الوقت لوضع دستور للجزائر وهذا هو المنطق الذي تكلم به رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، أضاف رخيلة.