يعطي الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب الانطباع بأنه يحاول حسم كل المسائل العالقة التي خلفتها الإدارة الأمريكية السابقة أو أنه يذكر العالم بأن واشنطن لم تتخل تماما عن لعب دور «الدركي « وهنا يظهر للعيان حجم تناقض وتخبط الإدارة الأمريكية الجديدة بتناقض تصرفاتها مع الخطابات المعلنة لترامب خلال حملة الرئاسة الانتخابية التي كان شعارها الأبرز «أمريكا أولا» وأعتقد حينها الجميع أن أمريكا ستعود إلى سلوكها الانعزالي لما قبل الحرب العالمية الثانية ليصطدم الجميع أن الشعار الأصح هو «أمريكا أخيرا» وإلا كيف نفسر أن كل القرارات التي اتخذها ترامب تتعلق كلها بالخارج وليس بالشعب الامريكي ما عدا قراره الذي منع بموجبه مواطني 8 دول إسلامية من دخول الأراضي الأمريكية وهو القرار الذي دشن به ترامب فشل سياسته الداخلية بعدما وجد نفسه في مواجهة القضاء الأمريكي الذي أسقط هذا القرار الغريب عن الشعب الأمريكي؟
قد تكون عدم وجود رؤية واضحة لإدارة ترامب في مجال السياسة الداخلية وراء عمليات استعراض القوة التي ينتهجها خارجيا فبداية بضرب قاعدة الشعيرات السورية ثم استفزاز كوريا الشمالية بعد إعطاء أوامره لأسطول البحر الهادئ بالتحرك نحو شبه الجزيرة الكورية وأخيرا إلقاء أكبر قنبلة تقليدية على أفغانستان يتسائل المتابعون للشأن ما هي الجدوى من كل هذه التحركات؟.
يريد الرئيس الامريكي دونالد ترامب من خلال إعلانه على أنه سيعالج الملف النووي الكوري الشمالي بمفرده أن يثبت للعالم أجمع أنه ليس كسابقيه وأنه لا يقبل تمرد أي كان على إرادة القوى العظمى التي يرأسها وفي هذا الصدد لم يتوان في الكثير من المرات بالتذكير أن بلاده تمتلك أقوى جيش في العالم ولعلّ القنبلة الضخمة التي ألقاها على افغانستان هي رسالة موجهة بالدرجة الأولى إلى بيونغ يونغ قد يكون مفادها أنه قادر على تدمير هذا البلد دون اللجوء إلى السلاح غير التقليدي.
إن التهديد الأمريكي لكوريا الشمالية من خلال تحريك أسطول البحر الهادى نحو شبه الجزيرة الكورية لا يمكن فصله عن ضرب قاعدة الشعيرات الجوية في سوريا والتي لم تزد في حقيقة الأمر إلى من التصعيد مع روسيا ومنحها ذريعة لتثبيت تواجدها العسكري في سوريا وتعزيزه وتقوية الدفاعات الجوية لحليفتها دمشق وبالتالي فإن تلك العملية لم تحقق ـ حسب الكثير من الملاحظين - إلا المزيد من التصعيد مع روسيا ودفعت إلى وجود احتمالين اثنين وهما إما الاستمرار في المواجهة مع موسكو على الأرض السورية وهذا شيء غير ممكن أو الانسحاب من المشهد وهو انسحاب قد يكون بطعم الهزيمة كما حدث مع أوباما سنة 2013، وبالتالي كان فتح جبهة كوريا الشمالية كان المخرج الوحيد لترامب لتحويل الأنظار والانسحاب مع حفظ ماء وجه واشنطن.
الأكيد أن البرنامج النووي العسكري لكوريا الشمالية شكل هاجسا دائما لكل الإدارات الأمريكية التي تعاقب عليها هذا الملف في حين اعتبره الحلفاء الآسياويون لواشنطن مصدر تهديد دائم لأمنهم وسلامتهم بل وسلامة كل المنطقة لهذا عملت واشنطن على مراقبة النشاطات النووية العسكرية لكوريا الشمالية عن كثب إلى درجة أن كاتب الدولة الأمريكي للدفاع بانيتا أعلن سنة 2013، عن دخول أكبر رادار تابع للبنتاغون الامريكي حيز الخدمة تم تثبيته بدارون الاسترالية مهمته مراقبة النشاطات الصاروخية لكوريا الشمالية إلا أن ذلك لم يمنع بيونغ يونغ من إجراء تجارب صاروخية من بينها صواريخ باليستية قبل إعلانها عن امتلاكها لصواريخ قادرة على الوصول إلى فلوريدا في استفزاز واضح لواشنطن، ولكن رغم ذلك لم تتحرك إدارة أوباما كما تفعل إدارة ترامب اليوم.
إن تحرك واشنطن اتجاه كوريا الشمالية جاء هذه المرة في توقيت لافت بحدوثه بعد يوم واحد على زيارة الرئيس الصيني دينغ سياو بينغ إلى واشنطن علما أن الصين هي أكبر حليف لبيونغ يونغ، فهل يعني هذا أن التحرك الأمريكي جاء بضوء أخضر صيني؟ أو بمعنى آخر أن بكين استشعرت بنوع من التمرد لدى الزعيم الكوري الشمالي - قد يكون مرده طيش شباب - وتريد بذلك أن تعيده إلى بيت الطاعة والضغط عليه من أجل العودة إلى المفاوضات التي أعلنت بشأنها مندوبة واشنطن بالأمم المتحدة منتصف مارس أن بلادها ليس في نيتها العودة إلى المفاوضات السداسية وأكد هذا التوجه نائب الرئيس الأمريكي بينس لدى زيارته إلى كوريا الجنوبية قائلا على الحكومة الكورية الشمالية وشعبها أن لا يمتحنا صبر ترامب وأن زمن التساهل قد ولى، ولكن يبدو أن هذه لا تعدو أن تكون مجرد تصريحات للضغط من أجل الضغط على بيونغ ييونغ لدفعها إلى العودة إلى طاولة المفاوضات حول برنامجها النووي المتوقفة منذ 2009، وهذه الأخيرة من جهتها لا تريد العودة إلا بتحصيل أكبر قدر من الضمانات لأنه في الأخير سوف لن تتعدى المواجهة بين واشنطن وبيونغ يونغ حدود «حادثة الفأس» التي شهدتها المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين سنة 1976، لأن التراشق بالسلاح النووي يعني الانتحار