يكاد يُجمع الباحثون في حقل العلاقات الدولية، على أن الطاقة بمختلف أشكالها تُشكل إما سبباً في الكثير من الصراعات المسلحة، أو على الأقل عنصراً أساسياً فيها، ولا تُشكل ليبيا استثناءً لهذا الصراع. فرغم هيمنة ما يُمكن وصفه -بتحفظ- بالأبعاد الأيديولوجية، للنزاع بين الأطراف المباشرة، وبعلاقة متعدية للأطراف غير المباشرة كتركيا وغيرها، إلا أن قطاع النفط والغاز الطبيعي، يُشكل مُحدداً أساسيا لسلوك مختلف الفاعلين المباشرين وغير المباشرين على الساحة الليبية. فالوضع في ليبيا يعكس تنافسا دموياً حول الهيمنة على النفط والغاز، باعتباره أحد أهم مصادر تمويل المجهود العسكري، سواء بالنسبة لحكومة الوفاق أو حتى بالنسبة لقوات خليفة حفتر. كما يُشكل كذلك أحد مجالات التنافس بين قوى خارجية، والتي يمتد تنافسها إلى ليبيا ليزيد من حدة الصراع من جهة، وتضاؤل فرص التسوية السلمية من جهة ثانية، على الأقل على المدى المنظور.
فعلى الصعيد الليبي، يُشكل قطاع الغاز والنفط المصدر الوحيد للدخل الوطني، غير أن ما يُشكل 3% من الاحتياطي العالمي، لا يجد مكانة له في استراتيجية التنمية، بل كأحد أحجار رقعة الشطرنج في ليبيا. فعائدات القطاع النفطي تُشكل مصدر التمويل الأساسي لطرفي النزاع، وعادةً ما يتم استنزاف عائدات النفط في دفع رواتب أعضاء القوات المسلحة، أو شراء ولاء الجماعات المسلحة من الطرفين. وتأتي الترتيبات الدولية فيما يخص قطاع النفط الليبي، لترسم صورة كاريكاتورية حول الوضع، فقوات حفتر التي تُسيطر على ما يقارب 80% من قطاع النفط لا يُمكن لها تسويق منتجاتها من النفط والغاز، إلا من خلال الشركة الوطنية للنفط التي تقع تحت سيطرة حكومة الوفاق، وهو ما يعني أن هذه الأخيرة هي من يدفع رواتب القوات التي تواجهها ميدانياً. كما أن الترتيبات التي تتخذها قوات خليفة حفتر، لحماية وتعزيز مواقعها في منطقة الهلال النفطي، تُشير إلى أهمية القطاع في المعادلة الاستراتيجية في ليبيا، ففقدان السيطرة على المناطق النفطية، وفق نفس النمط الذي جرت عليه العمليات العسكرية في الفترة الماضية، سيعني تفكك سيطرة حفتر على المناطق الشرقية، وهو ما يعني ربما مزيداً من المخاوف المصرية من سيطرة كلية لحكومة الوفاق على الأراضي الليبية، وهو ما قد يدفع مصر إلى التدخل العسكري المباشر.
أما على صعيد القوى الخارجية فيبدو الوضع أكثر تعقيداً، فالصراع على قطاع النفط والغاز في ليبيا، هو امتداد للمساعي الأوروبية لتقليص الاعتماد على الغاز الروسي، مقابل زيادة في حصة الغاز الليبي في الأسواق الأوروبية، خاصة بعد عدم تحمس الجزائر لزيادة حصتها بسبب العلاقات القوية التي تجمعها بروسيا. كما أن النفط يُشكل محددا للسياسة الخارجية بين الدول الأوروبية الأساسية، حيث تتمركز الأنشطة الإيطالية في منطقة نفوذ حكومة الوفاق، في حين تتوجه فرنسا نحو محاولة توسيع أنشطتها في منطقة الهلال النفطي ومنطقة فزان الواقعة تحت سيطرة قوات خليفة حفتر، من أجل الاستحواذ على مناطق النشاط التي تحتلها الشركات الألمانية.
كما أن قطاع النفط والغاز في ليبيا، يتقاطع مع التنافس المصري التركي في منطقة المتوسط، فبعد عزلها عن المشاركة في تجمع غاز شرق المتوسط، الذي يضم كل من مصر واليونان وقبرص، حاولت تركيا شل هذه المبادرة من خلال اتفاقية الحدود البحرية مع حكومة الوفاق، وهو ما يُشكل جغرافيا وقفا لمساعي التعاون ضمن تكتل ميد-غاز.
يُشكل النفط والغاز في ليبيا من جهة فرصة لتوجيه النزاع في ليبيا نحو التسوية، في حال تم إيجاد نقطة التقاء بين المصالح المتناقضة، أو حتى حسم المعارك حول المناطق النفطية وبالتالي حرمان أحد الأطراف من مصدر تمويل مجهوده العسكري. ويشكل من جهة أخرى أحد عوامل استمرار الصراع، باعتباره مصلحة حيوية ليس فقط لأطراف النزاع المباشرين، بل كذلك للأطراف الخارجية والتي دفعتها مصالحها في هذا القطاع، إلى التورط بدرجات متفاوتة في الصراع الليبي.