عندما كان النّقاش السياسي في ذروته حيال التدخل الأجنبي في سوريا، وتعالي الأصوات المطالبة بانسحابه فورا، جاءت حادثة خان شيخون لتنقل الأنظار إلى وجهة أخرى، ففي الوقت الذي فسح فيه المجال للمواقف تجاه ما وقع بين مستنكر ومتحفّظ، واعتراض روسي على أي مسودّة تدين الجهة المتّهمة، لم يعلّق ترامب كثيرا ما عدا قوله «أنّه عمل مشين للإنسانية»، وهذا بالتّوازي مع الحسم في قرار الرد، بالشّكل الذي أثار استغراب كل الفاعلين في هذا الملف الشّائك.
والضّربات الأمريكية أرادت تصحيح المعادلة القائمة في المنطقة، وقد فهم الرّوس هذه الرّسالة عندما تجاوزوا مرحلة الغضب بالعودة إلى التّواصل العادي مع واشنطن لإعداد أرضية أخرى للتّفاهم حول سوريا.
فلماذا قصف الأمريكيّون قاعدة «الشعيرات» العسكرية
دون أهداف حيوية أخرى في ذلك البلد؟ سؤال جدير بإيجاد الإجابة المقنعة له، نعتقد بأنّها سياسية أكثر منها عسكرية، بتخريب وتدمير كامل لأرضية المنشآة، الذي يحتمل أن تكون الطّائرات قد انطلقت منها.
والبعد المذكور آنفا، يتأكّد مع تصريح للمندوبة الأمريكية بمجلس الأمن التي قالت صراحة بأنّها ليست الأخيرة وتقصد بذلك القصف، وهذا في حد ذاته بمثابة فتح جبهة جديدة في سوريا تقودها أمريكا التي لطالما بقيت تتفرّج على تفاعلات الوضع المشتعل على أكثر من جبهة.
ومهما تكن الخلافات مع الديمقراطيّين فإنّ القاسم المشترك ينكشف في الاتّفاق الضّمني على السياسة الخارجية، التي هي امتداد طبيعي لما صرّح به أوباما عندما أوضح بأنّ استعمال السّلاح الكيمياوي خط أحمر لا يسمح بتخطّيه. وبالرّغم من هذا التّحذير، فإنّ أوباما تراجع في آخر لحظة رافضا دخول هذه المغامرة غير المحسوبة.
إذا المعطيات تغيّرت تغيّرا جذريا في المنطقة، وقد تفاجأ لها الجميع نظرا لخطورتها من ناحية التّخفيف من حدة التوتر القائم هناك، والشّروع في دعوة كل القوى الحاضرة بداخل سوريا إلى سحب قوّاتها، بدأت ضمنيا بما يعرف بـ «درع الفرات» التابعة لتركيا، التي أعلنت انتهاء عملياتها العسكرية في النّقاط المحدّدة لإبعاد الخطر الكردي قدر المستطاع إلى عمق البلدات غير المتاخمة لها حفاظا على أمنها القومي، مع مطاردة تلك العناصر في أراضي الغير. وبالتوازي مع كل هذا فإنّ الإطار العام للحل في سوريا ما زال بعيدا ولا تلوح أي مؤشّرات في الأفق، ووصف غوتيريش هذا الوضع بالإنسداد، وهذا هو الحال في جنيف اليوم.
ودلالات هذا التوقف عن المفاوضات مردّه إلى ذلك التّباعد في الطّرح بين المعارضة والنّظام بخصوص الشق السياسي خاصة.
والقصف الأمريكي قد يكون عاملا غير مباشر في تحريك الأوضاع الجامدة، غير أنّ التّصريحات الصّادرة عن ريكس تيلرسون وزير الخارجية حول هذا الجانب كانت مقتضبة، وهذا عندما أبلغ لافروف بأنّه على روسيا أن تختار تأدية دور بنّاء، بدعم وقف إطلاق النّار عبر مفاوضاتها في أستانا وجنيف، في أنّ المقاربة الروسية تتمحور حول تقوية الوجود الإرهابي في المنطقة.
وعليه، ما يسجّل اليوم في كل هذا الحراك هو عودة أمريكية لإثارة موضوع الرّئيس السّوري، وهذا تغيّر يناقض ما جاء على لسان كبار المسؤولين في البيت الأبيض، الذين اعتبروا أنّ الأولوية لمحاربة داعش وليس بشار الأسد لتتحامل المندوبة الأمريكية على هذا الرجل بشكل غريب.
ومن الصّعوبة بمكان استئناف الحوار بجنيف خلال هذه الفترة، لا لشيء سوى لغياب شروط إجرائه كما كان الحال في السّابق.
المعارضة التي تتفاوض في جنيف لم تفهم رسالة الوفد السّوري، الذي أراد إبلاغها بأنّ المصالحات بداخل البلد تجري عاديا مع صدور إجراءات العفو لصالح المسلّحين، وما عليكم إلاّ الانخراط في هذا المسعى، وضمنيا فإنّ التّعطيل هو تحصيل حاصل ولا مفر منه، ناتج عن رفض سوري قاطع لما يسمى بالانتقال السياسي، وهنا مربط الخيل.
هذه النّقطة هي التي أوصلت الجميع إلى الاصطدام بالجدار لأنّ دي مستورا ما زال يعلّق بصيصا من الأمل عليها، في كل مرة يقول أنّه سلّم ورقة سياسية تحمل ثلاثة محاور: الدّستور، الانتخابات والحوكمة، لا نعتقد أبدا بأنّ النّظام يوافق على هذا الأمر لأسباب لا داعي لذكرها تتعلّق أساسا بمصيره وحلفائه.
فبين طرح الحل الداخلي والانتقال السياسي يكمن التّعطيل، إرادتان سياسيتان لا تلتقيان أبدا، وإن استمر الحال على هذا المنوال فإنّ الوضع الرّاهن لا يتغيّر واستحالة عودة الاستقرار.