يحيي الشعب التونسي الشقيق السبت القادم الذكرى السادسة لثورته الشعبية التي أسست للجمهورية الثانية التي تشقّ طريقها اليوم بعزم و قوة نحو بناء دولة تتحقّق فيها كل الآمال و التطلعات .
رغم كل المصاعب و التحديات التي اعترضت مسيرة التغيير ، نجحت تونس في تجسيد النموذج الوحيد الناجح فيما يسمى ببلدان «الربيع العربي»، وهذا بفضل نخبة مخضرمة كانت في مستوى الثقة و التحدي و أدارت المرحلة بمقدرة قلّ نظيرها ، إذ استطاعت بحكمتها و الإجماع الذي حظيت به أن تقود السفينة إلى برّ الأمان و تقهر الأمواج العاتية التي اعترضتها ، كما كان للمواطن التونسي بحكمته و قوة بصيرته ، الدور الأكبر في جعل تونس تتقدم إلى الأمام مستنيرة بشعلة ثورتها التي تلقفتها العديد من الدول لكنها للاسف لم تعرف كيف تستفيد منها فاحترقت بلهبها.
لأنه كان مبنيا على أسس هشّة ، لم يصمد نظام الرئيس التونسي السابق طويلا أمام الاحتجاجات التي حاصرته بعد أن أطلقت شرارتها حادثة البوعزيزي التي وقعت في 17 ديسمبر 2010 .
ففي ظرف ثلاثة أسابيع فقط ، غادرّ الرئيس زين العابدين فجأة يوم الجمعة 14 جانفي 2011، تاركا البلاد للمصير المجهول ، وفيما الشعب يحتفل بنصره ، كانت تونس تتحسّس طريقها التي لم تكن في هذه اللحظة مفروشة بالياسمين ، بل على العكس تماما، فالانهيار السريع للسلطة خلق فراغا وجب الإسراع بملئه.
وفي نفس اليوم أعلن الوزير الأول محمد الغنوشي توليه رئاسة الجمهورية بصفة مؤقتة، و أعلن حالة الطوارئ وحظر التجول. وقرّر المجلس الدستوري بعد يوم واحد اللجوء للفصل 57 من الدستور وإعلان شغور منصب الرئيس، وبناءً على ذلك أعلن في يوم السبت 15 جانفي 2011 عن تولي فؤاد المبزع رئيس مجلس النواب منصب رئيس الجمهورية بشكل مؤقت، إلى حين إجراء انتخابات رئاسية مبكرة خلال فترة من 45 إلى 60 يومًا.
و في 27 جانفي ، شكّل رئيس الوزراء محمد الغنوشي حكومة انتقالية، من دون الشخصيات الرئيسية التابعة للنظام السابق، و بدأ التفكير في انتخاب مجلس تأسيسي لوضع دستور جديد.
و سريعا برزت الحاجة إلى رجال يحظون بالثقة و الكفاءة لقيادة تونس في هذه المرحلة الحساسة ، و كان أن خلف الباجي قائد السبسي ، الغنوشي في رئاسة الحكومة الانتقالية.
قطار التغيير على السكّة يسير
رغم الصعوبات، مضت تونس تخطو خطواتها بثبات لانتخاب قيادة جديدة ، و تمّ لذلك إنشاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي نظمت و أشرفت على أول انتخابات حرة ونزيهة في البلاد.
وفي 23 أكتوبر 2011 نظم أول اقتراع حرّ وديمقراطي، وانتخب المجلس الوطني التأسيسي التونسي.
و فازت حركة النهضة بأغلبية كبيرة غير مطلقة ليتم تكوين تحالف «الترويكا» بينها و بين حزبين آخرين وبهذا أصبح للنهضة الأغلبية المطلقة في المجلس .
وفي 13 ديسمبر 2011، انتخب المناضل الحقوقي المنصف المرزوقي رئيسًا للبلاد من قبل نواب المجلس التأسيسي، و عين حمادي الجبالي الرجل الثاني في حركة النهضة رئيسًا للوزراء و كلف بتشكيل الحكومة.
ومضت تونس تشقّ طريق انتقالها السلمي الذي اعترضته الكثير من الأحداث الصعبة ، خاصة الاغتيالات التي طالت معارضين بارزين، ودخول العمليات الإرهابية على الخط للتشويش على الوضع الأمني ، بالاضافة إلى المصاعب الاقتصادية التي بدأت تلقي بظلالها الداكنة على الأوضاع الاجتماعية ، ما دفع إلى تغيير رئيس الحكومة ، حيث عين في 15 مارس 2013 علي العريض (حركة النهضة) رئيسًا للوزراء.
بعد أشهر من المفاوضات الصعبة ، وقّع القادة التونسيون الدستور في 26 جانفي 2014، و بعد ثلاثة أيام ، تمّ تشكيل حكومة تكنوقراطية بقيادة مهدي جمعة، و تخلت النهضة عن السلطة للتحضير لانتخابات تشريعية ورئاسية في نفس العام، لكن حزب «نداء تونس» لقائده الباجي قائد السبسي هو الذي حصد التشريعيات ، في حين فاز السبسي برئاسة الجمهورية و ذلك في 23 نوفمبر 2014. في 31 ديسمبر، تمّ تنصيب السبسي رئيسا للجمهورية خلفا للمنصف المرزوقي
و عين في 6 فيفري 2015 الحبيب الصيد (مستقل) رئيسًا للوزراء، و بعد سنة و نصف أي في 27 أوت 2016 عين يوسف الشاهد (نداء تونس) رئيسًا للوزراء.
التحدي الأمني
لا يمكن لاثنين أن يختلفا في كون النموذج التونسي في التغيير كان ناجحا برغم المصاعب والتحديات ، خاصة التي فرضها الدمويون بعملياتهم الإرهابية التي على عكس ما رمت إليه ، فإنها عزّزت وحدة الشعب التونسي الذي كثّف جهوده لإجهاض كل محاولة لسرقة «ثورته» أو نسف انجازاتها و رغم الهجمات التي تعرضت لها ، والصعوبة التي تميّز الحرب على الإرهاب ، استطاعت تونس أن تحقّق فيها النصر الكبير بعد ان اكتسبت قواتها دراية و مقدرة كبيرة على مواجهة الدمويين ، حيث أجهضت العديد من العمليات من بينها سعي مجموعة من الارهابيين إلى تحويل مدينة بن قردان إلى إمارة «داعشية» ، و قد شهدت هذه المدينة في 7 مارس 2016 مواجهات بين مجوعات ارهابية و عناصر الجيش و الشرطة لمدة اسبوع ، انتهت بتصفية الدمويين و إفشال مخططهم الدنيء.
و يبدو جليا اليوم أن النشاط الارهابي تقلّص في تونس بشكل كبير نتيجة المواجهة القوية التي تبديها الأجهزة الأمنية التي اكتسبت خبرة كبيرة، ففي السنة المنصرمة لم تسجل غير عملية بن قردان ، في حين كانت سنة 2015 اكثر دموية وشهدت أكبر العمليات الإرهابية التي انطلقت في شهر مارس باستهداف «متحف باردو و من ثم نزل في ولاية سوسة الساحلية شهر جوان.
هذه السنة عمدت فيها العناصر الإرهابية الى استهداف المدنيين و السياح الأجانب عبر عناصر منفردة و ذلك بسبب تضيق الخناق الذي تعرضت له الجماعات الدموية المتمركزة بالمرتفعات.
وفي نوفمبر من نفس السنة فجّر عنصر انتحاري نفسه في حافلة تابعة لقوات الأمن الرئاسي، ما أسفر عن استشهاد 12 عونا.
مكتسبات وانجازات
لا شك أن طريق الانتقال السياسي في تونس ليست مفروشة بالورود ، لكن التغيير يسير في الطريق الصحيح بهدوء و تضحية يقدمها الجميع إدراكا منهم بأن تحقيق مطامح «الثورة» تتطلّب صبرا و تفهما للظرف الصعب ، و فوق ذلك تتطلب حذرا و حيطة لإجهاض كل محاولات ضرب الأمن أو هزّ وحدة الشعب كما يقع في بعض الدول الشقيقة للأسف الشديد.
و من حقّ الشعب التونسي ان يفتخر بنفسه ، لأنه استطاع ان يصنع نموذجا للتغيير الهادئ السلمي في محيط عربي هائج ، وحقّق مكتسبات ومنجزات سياسية ملموسة.
لقد وضعت تونس قطار التغيير على السكّة الصحيحة وأسّست نظاما سياسيا جديد ا يقوم على الفصل بين السلطات واحترام الحقوق والحريات وحمايتها ، و المطلوب اليوم هو ضرورة تركيز الجهود لمواجهة التحديات الأمنية وتحسين الوضع الاقتصادي والتنموي.
ويعتقد الكثير من الخبراء ، أن الشقيقة تونس تقبل على سنة 2017، بعد أن نجحت بامتياز في عقد المؤتمر الدولي للاستثمار الخريف الماضي والذي زاد في إشعـاع صورتها في الساحة الدولية ومهّد لها السبيل لاسترجاع مكانتها كوجهةً استثمارية وسياحيّة بارزة.
كما أشاع المؤتمر ، الأمل لدى عموم التونسيين في قدرة بلادهم على تخطّي حالة التصدّي للمخاطر بمختلف أشكالها لبلوغ مرحلة التعافي من تأثيرات الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية.
وبدون أدنى شكّ ، تبقى المؤازرة الدولية ضرورية لتونس في جهودها الرامية إلى توطيد أركان ديمقراطيتها الناشئة ودعم مقوّمات أمنها وتنميتها.
لا نجاح بدون وحدة
مضت سنتان منذ انتخاب الباجي قائد السبسي، في ديسمبر 2014 رئيسًا للجمهورية، وبدخول العام 2017، دخلت عهدته الرئاسية التي تستغرق خمس سنوات عامها الثالث، وهو عام مفصلي بحق.
تحدث السبسي بالمناسبة عن أهم ما ميّز فترة تسلّمه رئاسة الجمهورية، وأبرز الأهداف بعد أن بدأت تونس مرحلة إقلاع لا يستهان بها، وجب تأكيدها وتسريع وتيرتها مع ملازمة اليقظة الكاملة في كلّ ما يتعلّق بالوضع الأمني.
وشدّد السبسي على ضرورة «تقوية الوحدة وّ الحرص على إتاحة مناخ ملائم للتداول على الحكم في مواعيد ثابتة ، مشيرا إلى التحدي الأمني الذي تشكّله الأزمة الليبية بالنسبة للجوار ما يدعو تونس ـ كما أضاف - إلى العمل لأجل تسهيل سبل الحِوار بين مختلف الأطراف الليبية وتمكينها من تحقيق الوفاق المطلوب.
واعتبر السبسي أن الأهمّ هو مصلحة تونس العليا، وقال أنه يستحيل كسب أي رهان ورفع أي تَحَدّ بدون الاتحاد والتوحد في كنف حبّ الوطن ورفعة الدولة.