يبدو أن موسكو استطاعت أن تفرض نفسها كرقم مهم في رقعة الشطرنج السورية من خلال مدخلين أساسيين استطاعت عبرهما أن تثبت فعاليتها في المشهد السوري و كشف في الوقت نفسه ترنح وضعف إدارة أوباما في التعاطي مع هذا الملف الذي ازداد تعقيدا بمرور الأيام مع ازدياد عدد المتدخلين فيه.
فمنذ خمسة عشر شهرا فقط على التدخل العسكري الروسي في سوريا - بطلب من حكومة بشار الأسد - استطاعت موسكو أن توجّه ضربات موجعة للجماعات الإرهابية المتواجدة في سوريا وعلى رأسها تنظيم «داعش»، و ذلك عبر الطلعات الجوية المكثفة للطيران الحربي الروسي التي كللت - حسب الكريملين - بالقضاء على حوالي 40 ألف إرهابيا بينما لم يتمكن التحالف الدولي الذي أسّسته واشنطن لمكافحة الإرهاب قبل ثلاث سنوات إلا بالقضاء على العشرات أو المئات على أكثر تقدير.
الضربة الثانية التي وجهّها بوتين إلى تنظيم الدولة الإرهابي هو القضاء على حبله السرّي المتمثل في تهريب النفط السوري الذي كان يدّر على التنظيم الملايين من الدولارات الأمريكية الشيء الذي أعطاه القدرة على التمدّد و الاستمرار طوال كل هذه السنوات و ذلك من خلال الحصول على الأسلحة و تجنيد أعداد هائلة من المقاتلين من خلال إغراءات مالية معتبرة بلغت الـ 600 دولار أمريكي شهريا قبل أن ينتهي كل ذلك بعد استهداف الطيران الروسي للترسانة الضخمة من الشاحنات التي كان يستعملها التنظيم في تهريب النفط نحو تركيا و بهذا يكون «داعش» خسر أكثر من نصف مداخليه المالية.
على الصعيد السياسي استطاعت موسكو أن تحقّق انجازا يعتبر الأكبر و الأهم على الإطلاق منذ اشتعال فتيل الحرب السورية، و هو وقف إطلاق النار عبر كامل التراب السوري بين أطراف النزاع و هو الشيء الذي لم يحصل حتى في أوج المفاوضات التي احتضنتها مدينة جنيف السويسرية بين النظام السوري و المعارضة ، و الملفت للنظر في هذا الصدد أن مجلس الأمن الأممي و كل الأطراف المتدخلة في الأزمة السورية سارعت إلى مباركة وقف إطلاق النار و من ضمنها تلك التي لم تشارك في التوصل إليه و على رأسها الولايات المتحدة و حلفائها الأوربيين و بعض الدول العربية التي وجدت نفسها في حالة تسلل (خارج الطبخة الجديدة) التي تمت بتعاون ثنائي روسي - تركي بينما ظهرت الدول الأخرى التي كان لها اليد الطولى في إذكاء الحرب السورية وكأنها تغرد خارج السرب في مجهودات إطفائها نيرانها، لذا فهي لا تحلم اليوم بأكثر من الالتحاق بقطار التسوية في سوريا حتى و إن كان في حالة سير و بدأت مؤشرات ذلك تتضح من خلال تراجعها عن بعض شروطها و في مقدمتها رحيل بشار الأسد و هو البند الذي يبدو أنه لن يكون مطروحا خلال المحادثات التي ستحتضنها العاصمة الكزخية أستانا و هي محادثات قد تكون أكثر مصداقية ـ كما يبدو ـ لأنها بكل بساطة مسنودة بوقف إطلاق نار يسبق انعقادها و هذا مكسب سيسمح بالمرور مباشرة إلى النقاط الأخرى مما يسرع من وتيرة المفاوضات و يسهلها حيث يعني الوقت نفسه أن هناك موافقة ضمنية من جميع الأطراف على الانخراط في العملية السياسية ما عدا الجماعات الإرهابية و على رأسها جبهة النصرة التي حوّلت اسمها إلى «أحرار الشام» في محاولة الخروج كالشعرة من عجين الإرهاب أي الحصول على تذكرة الالتحاق بالعملية السياسية ، الشيء الذي ترفضه دمشق و موسكو جملة و تفصيلا. و ظلّ يشكل محور مطالبتهما منذ البداية المتضمن فرز الجماعات الإرهابية عن ما يسمى بالمعارضة المعتدلة و الجماعات المسلحة الأخرى لتحمي نفسها من نيران الضربات الجوية للطيران السوري و الروسي من جهة و السماح لها بالمشاركة في أي عملية سياسية محتملة.
الأكيد أن موسكو تحوّلت من شريك في حلّ الأزمة السورية إلى قائد لفريق تفكيك شيفرة هذه الأزمة و مهد لذلك العديد من العوامل لعلّ من أهمها التصدّع الذي دبّ في صفوف المعسكر الغربي و خاصة بين واشنطن و أنقرة هذه الأخيرة التي وجدت نفسها تخسر كل الأجندات التي راهنت عليها عبر انخراطها الذي وصل إلى درجة التهوّر بانغماسها في الملف السوري و لم يتوقف الأمر عند ذلك بل وجدت نفسها تغرق بمفردها في أوحال هذه الأزمة دون أن يلقي إليها أي من حلفائها يده لمساعدتها على الخروج، و خاصة واشنطن التي شعر أردوغان أنها خذلته فهي لم تقدم له أي نوع من الضمانات الحقيقية لمنع الحلم الكردي من التحقق على الأراضي التركية بل أكثر من ذلك زوّدت الأكراد بالأسلحة ثم تركته بعد ذلك يواجه مصيره في حادثة إسقاط المقاتلة الروسية ثم جاءت المحاولة الانقلابية الفاشلة ضده حينها تأكد الرئيس التركي ذو الطموحات العثمانية أنه تم الزج به في فوهة المدفع و هذا علاوة على الإحباط الذي لحقه بسبب استمرار الرفض الأوربي لانضمام أنقرة إلى النادي المسيحي الأوربي، كلها هذه المعطيات جعلت أردوغان يرتمي بكل ثقله في أحضان بوتين الذي استلمه مكسورا و مهتزا نفسيا و بطموحات أقل بكثير عن السابق، ووظف كل ذلك لحل الأزمة السورية بمساعدة تركيا أردوغان و لكن ليس في شكل شراكة الند للند فالقيصر الروسي الجديد لا يريد من تركيا أكثر من لعب دور المناول في حل الأزمة و هو يعلم يقينا أن بوتين لن يرفض أي مهمة تطلب منه بعدما فقد الهامش الكبير من المناورة الذي كان يتمتع به في السابق بعد تخلي حلفائها عنه و تركه يواجه مصيره بمفرده و هذا ما يفسر اتهامه لواشنطن صراحة بدعم و رعاية تنظيم داعش في سوريا و هو اتهام خطير لم يكن يجرؤ الرئيس التركي على التفوه به لولا تمتعه برعاية و حماية موسكو عدو الأمس حليف اليوم.