ما هي الدّلالات السياسية للهجوم الإلكتروني الروسي على المنظومة الانتخابية الأمريكية خلال الرئاسيات الأخيرة، ونشر وثائق اللجنة الوطنية الحزب الدمقراطي عبر موقع «ويكيليكس». سؤال جدير بطرحه في السياق الراهن المتميّز بالتفوّق الروسي في الحضور على مستوى العلاقات الدولية، وقدرة هذا البلد على صناعة الحدث عالميا بالصيغة المبنية على تفادي تكرار الخطأ وسوء التقدير فيما حدث في ليبيا.
هذا المؤشر هو الذي تضعة القيادة الروسية في صميم استراتيجيتها وفي صدارة تحركاتها الراهنة اعتمادا على ركائز قوية في أداء المهام بالشكل المطلوب المخولة للمؤسسات الناشطة منها وزارة الشؤون الخارجية التي تعمل بوتيرة مدهشة ومنسّقة والأكثر من هذا بصوت واحد لا يحمل أي تناقض في قضايا حسّاسة وملفات شائكة، من الرئيس بوتين بتعلماته الصائبة وتوجيهاته الدقيقة إلى وزير خارجيته لافروف، ونائبه ريابكوف وغاتيلوف، والناطق باسم الوزارة كبسوف، وممثل روسيا في الأمم المتحدة تشوركين.
هذه المجموعة ذات التأثير الدبلوماسي المباشر على سيرورة المستجدات هي التي حاصرت النفوذ الأمريكي على الصعيد العالمي، وقزّمته إلى درجة لا توصف في الإحاطة بالأحداث خاصة في عهد أوباما، الذي امتاز بالتردد والتراجع في اتخاذ القرار عندما اكتشف الروس نفسيته أطلقو العنان للمضي قدما نحو استدراك ذلك التأخر أو الغياب عن المسرح الدولي منذ انهيار جدار برلين وتفكيك الكتلة الشرقية واختفاء ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي.
وفي مقابل ذلك، فإن كتابة الدولة الأمريكية فضّلت النزعة الانفرادية والشخصية من خلال ترك المبادرة الكاملة لكيري الذي غرق في مسائل معقّدة جدّا، خاصة ما يقع في سوريا وكل ما اقترحه على دي ميستورا من انتقال سياسي لم يتم في سياق معين لأن الرؤية غير واضحة عندما كانت المعارضة المسلحة على وشك احتلال كل المدن نظرا لما تلقته من دعم غير محدود من هنا وهناك.
وهكذا انتزع الروس هذا الملف من تلك الدوائر وهذا عن طريق التدخل المباشر بواسطة سلاح الجو والقصف اليومي إلى غاية إرهاق الجميع والتأثير على معنوياتهم، والإكثار من الحصار البري بدأ بالطريق الحيوي «الكاستيلو» لمنع وصول الإمدادات بالشكل السابق.
وخلال هذه الفترة من تعقّد النزاع أمنيا، غاب الأمريكيون من الساحة وكل ما كانوا يقولونه حماية المدنيين وإرسال المساعدات وفتح الممرات الآمنة لسكان حلب، وقد أضعفهم أو زاد من انكفائهم فوز ترامب بالرئاسيات وعودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض.. من هنا تبدأ فترة جديدة في المسار السياسي الأمريكي.
التحوّل الحاسم
عندما طلب الروس بإرسال وفد لمراقبة سريان العملية الانتخابية في عينة من الولايات الأمريكية، أبدت الخارجية لهذا البلد قلقها من هذا الطلب، ورفضت فورا مجيء وفد روسي إلى أراضي الولايات المتحدة خلال هذه الأثناء كان الهجوم الإلكتروني الروسي في مرحلة متقدمة من النشاط فيما يعرف بطريقة «بالتصيد».
واستطاع أن يصل إلى مسؤولين قياديين في الحزب الديمقراطي ويتعلّق الأمر، بمدير الحملة الانتخابية جون بودستا وآخرين بعد الحصول على الأرقام السرية لهؤلاء، في الولوج إلى مواقعهم والعملية معقدة جدا بدليل أن عقوبات أوباما شملت القراصنة والكيانات.. واعتبار ٣٥ دبلوماسيا شخصية غير مرغوب فيها وعليهم مغادرة الولايات المتحدة خلال ٧٢ ساعة.
وقد أوردت وسائل الإعلام الرموز الروسية المستعملة إسنادا إلى التقرير المفصل الذي سُلم إلى أوباما مع تفاصيل بارزة روت الكيفية التي جرى بها هذا السيناريو، واصفا بأنه مضر بالمصالح الأمريكية.. وعلى غرار كل ما قاله الرئيس الأمريكي يجدر بنا التذكير بجملة جاءت في سياق كلامه مفادها هناك «تدابير غير معلنة ستتخذ لاحقا ضد روسيا».
ونعتقد بأن الرهان كل الرهان.. يكمن في هذا الجواب المباشر فما هي طبيعة هذه الإجراءات الخفية؟
وهل سندخل في إرهاصات حرب باردة أخرى؟ بعدما تخلّص منها العالم عقب سقوط الأيديولوجيات في إدارة الشأن السياسي، التي كانت قائمة على الجوسسة العنيفة، سباق التسلح، الدعاية، والانغلاق على الذات.
التهدئة إلى حين
لسنا في هذا الظرف بالذات، لكن الرئيس بوتين يريد التهدئة بدلا من التوتر فقد رفض اقتراح وزير خارجيته العمل بالمثل أي مطالبة الدبلوماسيين الأمريكيين من مغادرة موسكو وبترسبورغ، وعدم الاستفادة من فضاءات إقامة وضعت لصالحهم.. موضحا بأنه لا يمكن للدبلوماسيين دفع فاتورة ما وقع داعيا الجميع إلى حفل بالكرملين قريبا.
وبالتوازي مع كل هذا، فإن ترامب صَعُبَ عليه إستسغاء ما يجري، فهو لا يؤمن أو بالأحرى يتحفّظ تجاه القول بأن الروس حوّلوا نتيجة الانتخابات لصالحه بمعنى أن المنتخبين أداروا ظهرهم لكلنتون، عند تسريب وثائق الحزب عبر صفحات الانترنت وإلى غاية يومنا هذا مازال ذهنه بعيدا عن الواقع وكل ما يقوله «سنرى بعد ٢٠ جانفي» في الوقت الذي بعثت مؤسسة الاستعلامات العامة برسالة قوية لترامب مطالبة إياه بقراءة التقارير الذي تصله بمعنى أن صناعة أي قرار يجب أن يكون مبنيا على هذه المرجعية وليس شيئا آخر، أو مصدرا ثانيا خارج هذا الإطار وهذا الفراغ الحالي هو الذي أوصل الوضع في الولايات المتحدة إلى هذه الحالة.
والأبعاد السياسة للهجوم الإلكتروني الروسي تشير صراحة إلى قدرة الروس على فرض أمر واقع جديد في التعامل مع الآخر عقب أن سئموا من سياسة الديمقراطيين في قضايا دولية هامة، منها سوريا التي لم يتعاونوا فيها مع روسيا عندما طالبت هذه الأخيرة بالفصل بين المعارضة وجبهة فتح الشام وداعش.. لكن الولايات المتحدة لم تجب على ذلك كما أن الولايات المتحدة أرادت أن تكون المرحلة القادمة في سوريا بدون الرئيس الحالي بشار الأسد.
هذه العناصر وغيرها لم تكن في صالح الولايات المتحدة في الوقت الذي كان الروس يقرّرون مصير حلب عن طريق القصف المكثّف والأمريكيون احتاروا في كيفية التعامل مع هذه التطورات.
لذلك فإن أوباما يريد تعقيد وضع ترامب وتسميم له مهامه في غضون أيام حكمه ليجد نفسه وجها لوجه مع الروس، بخصوص مشاكل لم يكن مسؤولا عنها.. وهذا ما يرفضه ترامب ولا يريد اللعب في هذا الميدان خوفا من هذه التركة.. لذلك أبدى قلقه من الإطار المغلق الذي أدخله فيه أوباما.. نفس التفسير أعطاه مساعدوه الحاليون الذين أعربوا عن استيائهم من ممارسات الديمقراطيين قبل مغادرتهم البيت الأبيض بتوريطهم في حلقة دبلوماسية صعبة المراس مستقبلا.
ما ينوي ترامب القيام به مع الروس يختلف اختلافا جذريا على ما هو واقع اليوم منذ الوهلة الأولى قرّر أن تكون له علاقات طبيعية وعادية مع الرئيس بوتين، ستظهر ملامحها فيما بعد في حين أن المؤسسات السياسية والأزمنة الأمريكية لا تسير في هذا الاتجاه وتطلب من الوافد الجديد على البيت الأبيض عدم التسرّع بالارتماء في أحضان الروس لأسباب أكثرها أمنية.