أعلنت الولايات المتّحدة عن تأثّرها ودهشتها واستغرابها من دوافع روسيا لإرسال منظومات الدفاع الجوي من طراز (إس – 300) إلى سوريا، وكانت وزارة الدفاع الروسية قد أعلنت عبر الناطق باسمها مؤخّرا تسليمها بطارية من نظام الدفاع الجوي أس 300 بـ 4، بالإضافة إلى مقاتلات ميغ 31 إلى سوريا لحماية القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، وذلك عقب الإعلان الأمريكي عن وقف التنسيق مع الروس بشأن سوريا، وانهيار الهدنة الهشّة التي توصّل إليها الطرفان مطلع الشهر الماضي وتهديدها ضرب الجيش السوري، رغم انعقاد اجتماعين مؤخّرا أحدهما بلوزان السويسرية، والذي ضمّ دول الجوار ولم يستدع إليه الأوروبيون، وكان يهدف إلى الحفاظ على الوحدة السورية ومحاربة الإرهاب بينما كان الإجتماع الثاني ببريطانيا، وكان يهدف إلى دعم المعارضة وتقديم المساعدات.
اعتبر «كوناشنكوف» الروسي أن الولايات المتحدة أفشلت كافة اتفاقات وقف إطلاق النار في سوريا، وذلك بعجزها عن فصل ما يسمى المعارضة عن جبهة النصرة، والسماح للإرهابيين بإجراء إعادة التموضع والتموين. وكانت تقارير تحدّثت عن إرسال روسيا منظومة أس 400 إلى سوريا عقب إسقاط مقاتلتها السوخوي من قبل تركيا قرب الحدود السورية التركية، وذلك لحماية طائراتها العاملة في سوريا.
صرّح المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية «بيتر كوك» بأنّ البنتاغون لا يفهم دوافع روسيا لإرسال صواريخ «إس - 300» إلى سوريا، وبأنّ هذه المنظومات يمكنها التأثير على العمليات العسكرية للتحالف. بعد ذلك خرج المتحدّث باسم البيت الأبيض «جوش إرنست» ليعلن أن البيت الأبيض يعتبر أن نشر صواريخ «إس - 300» في سوريا يتعارض مع هدف مكافحة التطرف في سوريا الذي أعلنته روسيا، وأنه لا يعلم بامتلاك داعش أو القاعدة طائرات هناك، مشيرا بسخرية وفي ذكاء منقطعي النظير إلى أنّه «قد تكون لدى روسيا معلومات استخباراتية أخرى، لكنّني أشكّ في ذلك».
دهشة وتأثّر وعدم فهم على الرغم من أن الولايات المتحدة تعرف جيدا أن منظومات (إس – 400) الأكثر تطورا موجودة منذ فترة طويلة في سوريا وبشكل علني. فما وجه كل تلك الدهشة والتأثير وعدم الفهم! لقد أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن منظومات صواريخ «إس - 300» وصلت إلى سوريا «لحماية القاعدة العسكرية الروسية البحرية في طرطوس. وكذلك السفن الحربية الموجودة بالمنطقة الساحلية السورية وحمايتها من الضربات الجوية». مع العلم بأن هذه المنظومة دفاعية بحتة ولا تمثل أي تهديد لأي أحد.
إنّ البيت الأبيض أعلن أنّه «لا يستبعد احتمال فرض عقوبات على روسيا وسوريا لكن بالتنسيق مع الشّركاء، وأنّ الرئيس أوباما قد يستخدم عددا من الإمكانيات لعزل النّظام وربما الروس بسبب دعمهم هذا النظام. والعقوبات من بين هذه الآليات». وبالتالي، يمكن أن ننتظر حملة أمريكية جديدة لدعوة «الحلفاء» إلى فرض عقوبات ضد روسيا، إذ أنّ البيت الأبيض يرى أنّ «تطبيق العقوبات يحقّق الفاعلية الأكبر عندما تنسق واشنطن استخدام هذه الآلية مع شركائها وحلفائها في العالم أجمع».
أمّا الأكثر إثارة للاستغراب، وربما إثارة الغضب، أنّ المتحدث باسم البنتاغون «بيتر كوك» يظهر فجأة ليعلن أنّ «وزارة الدفاع الأمريكية لا تزال منحازة للتسوية الدبلوماسية للنزاع في سوريا، وأنّ الوزير «آشتون كارتر» أكّد على دعم جهود الحكومة الأمريكية ووزير الخارجية جون كيري لإيجاد حل سياسي ودبلوماسي في سوريا». وبكل هدوء ذهب كوك إلى أن «البنتاغون يأمل في استمرار سريان مفعول الاتفاق مع روسيا بشأن أمان التّحليقات في سوريا رغم الخلافات». وكأنّه لا يعرف أنّ هذه الخلافات تتّجه إلى عسكرة حقيقية للنزاع السوري وفي نطاق واسع للغاية، وأنّ رئيس الولايات المتحدة قد أمر ببحث حل السبل، بما فيها العسكرية لتسوية الأزمة السورية، وأنّ واشنطن تدرس جميع الخيارات المتاحة بشأن تسوية الأزمة في سوريا، بما فيها العسكرية أيضا.
المؤسّسات والهيئات الأمريكية تعطي انطباعا وكأنّها منفصلة تماما عن بعضها البعض، وأنّها تعيش في دول وقارات مختلفة ومتباعدة، ولا تعلم أي منها ما يدور في المؤسسة أو الهيئة الأخرى. بل وتتلاعب كل منها بالتصريحات وبالكلمات والمصطلحات. ومع ذلك، نكتشف في نهاية المطاف أن هناك خطّا أساسيا يعكس جوهر «العنف»، والمضي قدما في عسكرة النزاعات وتوسيع رقعتها باستخدام كل الأدوات الممكنة، بما فيها الطائفي والمذهبي والعرقي.
المتحدّث باسم الخارجية الأمريكية مارك تونر قال: «لدينا بعض من الوضوح في مسألة الخيارات المتاحة بشأن تسوية الأزمة في سوريا، بما فيها العسكرية، لكنّنا ما زلنا نفتقد إلى الكثير من التفاصيل..ونحن الآن ندرس ما لدينا من الخيارات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية المتاحة»، حيث نوقشت مسألة «تنفيذ ضربات عسكرية محدودة ضد نظام الأسد من أجل إجباره على تغيير نهجه في نظام وقف إطلاق النار خلال العمليات في حلب، وفي جدوى مفاوضات سلام جادة طويلة الأمد». وأن الخيارات التي تجري مناقشتها «لا تزال سرية، وتشمل غارات على القوات الجوية السورية باستخدام صواريخ كروز وغيرها من الأسلحة بعيدة المدى، تطلق من طائرات وسفن قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
هذا الهدف الغريب، يؤكّد على أنّ الضّربات الجوية ليست لتغيير المعادلة على الأرض، أو لتغيير النظام في دمشق، وإنما «لإجبار الأسد على السّمع والطّاعة وتنفيذ ما تقوله واشنطن».
هناك مخاوف حقيقية من إمكانية نقل المواجهات القائمة إلى مواجهات بين روسيا والولايات المتحدة في سوريا. وهناك أصوات في واشنطن تتحدّث على أنّ توجيه ضربات أمريكية مباشرة ضد الجيش السوري قد تتسبّب في نشوب مواجهة مع روسيا هناك. ولكن هناك مؤشّرات كثيرة تشير إلى أنّ واشنطن تتلكأ في البحث عن سبل، أو بالأحرى تبحث عن الذرائع والمبررات، وإن لم تجدها، فسوف تفرضها كما حدث في حالة العراق وليبيا.
إنّ محاولات فرض المناطق الآمنة في سوريا، والحظر الجوي في أجوائها، تثير الكثير من المشاكل والأزمات الإضافية، وتشكّل معضلة حقيقية أمام أي تسوية. بل وتشير إلى العكس تماما، أي عسكرة النزاع وإيصاله إلى ذروته. وبالتالي، فمنع إقامة مناطق عازلة وحظر جوي، خطوة في غاية الأهمية، لأنّها ستمنع ظهور فراغ ستملأه حتما التّنظيمات والجماعات الإرهابية، وستقف حائلا أمام الحرب الشاملة في سوريا، وستحول دون أي مواجهات بين موسكو وواشنطن هناك.
المجازفة بسيناريو «مرعب» في سوريا
يمكن وصف الوضع في سوريا في الوقت الرّاهن بأنه يقترب نظريا من درجة الغليان، خاصة بعد أن تواترت الأنباء بأن الجدل الدائر في واشنطن يميل نحو استخدام القوة ضد الجيش السوري.
فالجدل الذي تحدّث عنه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في 22 سبتمبر الماضي أمام معارضين ونشطاء سوريين قد مال لصالح صقور، وضع كيري نفسه بينهم، يدفعون باتجاه استخدام القوة ضد الرئيس بشار الأسد، إلا أنّ إعلان واشنطن في 4 أكتوبر أنّها تدرس جميع الخيارات المتاحة بشأن تسوية الأزمة في سوريا، بما فيها العسكرية، وحديث وسائل الإعلام الأمريكية عن بحث واشنطن التدخل العسكري المباشر في سوريا ضد دمشق عبر قصف قواعد السلاح الجوي السوري بصواريخ كروز من الجو والبحر، يقلب الرهان لصالح الصقور. والسؤال المحير الذي يتبادر إلى الذهن في هذا السياق: إلى ماذا تسعى الولايات المتحدة في سوريا بالتهديد بحرب تضاف إلى الحرب القائمة في هذا البلد المنكوب بحروب من كل نوع منذ أكثر من خمس سنين؟
على الرغم من أن الولايات المتحدة عمليا هي المسؤولة الأولى عمّا يحدث في الشرق الأوسط، بما في ذلك ظهور وتمدّد «داعش» في أعقاب حربها الهوجاء الغريبة على «الإرهاب» في العراق وحرب الإطاحة بالقذافي في ليبيا، إلا أنها وهي تحاول في سياق عملية تمويه كبرى، أن تلقي بالمسؤولية على عاتق روسيا، كي تبرّر لنفسها من جديد إشعال المزيد من نيران الحرب في سوريا عبر التهديد باستهداف الجيش السوري، ما يعني أنّها تسعى ضمنيا إلى نقل ثقل الحرب على الإرهاب من ظهر «داعش» إلى «الجيش السوري»، فماذا سيحدث إن هي أقدمت على مثل هذه الخطوة الخطرة؟
إن هي فعلت وأسقطت طائرات سلاح الجو السوري ودمّرت قواعده، فإنّها بالدرجة الأولى ستضع استقرار العالم بأسره تحت التهديد باحتمال وقوع صدام لا تحمد عقباه بين الولايات المتحدة وروسيا، بما في ذلك نتيجة حادث عرضي محتمل.
أما السيناريو الآخر الأكثر احتمالا إذا ما استخدمت الولايات المتحدة القوة ضد دمشق، فسيكون كارثيا أيضا، وسوف يصب في صالح «داعش»، وسيؤدّي إلى انتهاز الإرهابيين الفرصة واجتياحهم مواقع الجيش السوري، كما حدث حين أغارت طائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بـ»الخطأ» على موقع للجيش السوري قرب دير الزور في 17 سبتمبر الماضي، ما أدّى إلى مقتل عشرات الجنود السوريين وسيطرة مسلحي «داعش» لفترة من الوقت على جبل ثردة في محيط مطار المنطقة.
أما في حالة قيام واشنطن وحلفائها بهجوم صاروخي واسع على الجيش السوري، «متعمّد» وعلى رؤوس الأشهاد فستكون تداعياته كارثية، وقد يسقط البلد كاملا في يد مسلحي «داعش» و»النصرة» والتنظيمات الأخرى التي لا تختلف عنهما إلا في التسميات.
وإذا تحقّق مثل هذا السيناريو المرعب، فليس من المستبعد أن يذرف عدد من الساسة الأمريكيين، بما فيهم الصقور الأشد عدوانية، الدموع، وقد ينتقد بعضهم تسرع بلاده وخطأ حساباتها، لكن من المؤكد أن الجميع سيلقون بالمسؤولية على روسيا.
ومن حيث الجوهر، يحاول صقور واشنطن عبر الضغط لاستخدام القوة ضد دمشق الثأر من روسيا، فالولايات المتحدة تريد أن تكون السيد المطلق الوحيد هناك، كي تتصرّف كما يحلو لها، من دون أن يعكر صفوها أحد.
وبالمقابل تسعى روسيا، بكونها قوة عظمى، إلى لعب دور رادع في سوريا، يكبح جماح واشنطن للحد من خطر النيران التي أشعلت هناك عمدا بهدف تغيير تضاريس المنطقة بأسرها سياسيا وجغرافيا، وذلك عبر «طحنها» وتدمير مقدراتها كما في نموذجي العراق وليبيا المأساويين.
شروط المتآمرين
اجتمعت 5 دول كبرى في وزارة الخارجية الألمانية لصياغة «شروطها» من أجل ما أسمته بالتعاون مع روسيا في سوريا.
وعلى الرغم من التصريحات المرنة والمطاطة التي تحتمل أكثر من وجه، ويمكن تفسيرها بأكثر من معنى، اتضح أن الأمور أكثر تعقيدا، وأكثر «بلطجة»، إذ أنّ لغة فرض العقوبات لا تزال تسيطر على خطاب الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. والأكثر إثارة للدهشة أنّ ألمانيا شرعت بالانضمام إلى هذا الخطاب الابتزازي، على الرغم من تصريحاتها بأن لا حل للأزمة السورية بدون جهود روسيا. وهي التّصريحات التي يمكن قراءتها بأنّ برلين تحمِّل موسكو مسؤولية ما يجري في سوريا عموما، وفي حلب على وجه الخصوص.