استقلال الجزائر.. دفنٌ نهائي لوهم الإمبراطورية الفرنسية المزعومة
تتّخذ الأزمة الدبلوماسية الراهنة بين الجزائر وفرنسا منحًى خطيرًا، بعدما باتت بعض الدوائر الفرنسية، وعلى رأسها وزير الداخلية برونو روتايو، توظف الجزائر كفزّاعة انتخابية لتبرير تعثّرات داخلية متراكمة ومتلاحقة.
في قلب التصعيد غير المسبوق، يطفو على السطح وجه آخر من أوجه التأزم الفرنسي؛ إعلام عنصري مشحون بهواجس استعمارية قديمة، يكرّس خطابًا سلبيًا مشوَّهًا تجاه الجزائر الحرة والسيدة، ويتحوّل إلى منصة تغذيها تيارات اليمين المتطرف التعيس، تعيد إنتاج سرديات استعلائية تجاوزها الزمن. وهكذا تتداخل السياسة مع الإعلام، وتُستعمل الجزائر مجددًا كمرآة لمأزق الجمهورية الفرنسية، وعقدة التاريخ التي لم تُحسم بعد.
في هذا السياق، لا يبدو تحرّك الوزير روتايو معزولًا عن نهج متكامل يستهدف الجزائر وجاليتها بفرنسا، من خلال تصريحات استفزازية تجاوزت صلاحياته كوزير للداخلية، ليخوض في ملفات الخارجية والدبلوماسية، وليتبنى خطابًا متطرفًا يتقاطع مع نزعات ما بعد استعمارية تحنّ إلى زمن الهيمنة.
روتايو، في تصريحاته الأخيرة، لم يخف امتعاضه من توجّه الجزائر إلى تعزيز اللغة الإنجليزية في مدارسها، واعتبر ذلك «رفضًا للفرانكوفونية»، في موقف يُفهم فقط ضمن منطق الإملاء الثقافي ورفض الاعتراف بسيادة الدول الأخرى. وكأنّ الجزائر، في نظره، مقاطعة فرنسية يحق للداخلية الفرنسية توجيه سياساتها التربوية والثقافية.
كذلك، تتجلى الأزمة العميقة في كيفية تناول الإعلام الفرنسي للشأن الجزائري، حيث تُصوَّر الجزائر بصورة سلبية شبه دائمة، تتراوح بين التهويل الأمني، والتهكم السياسي، والتحامل المجاني. في نفس السياق، لاحظ العديد من المتابعين الفرنسيين، أن الجزائر لا تغادر الشاشات، لكنها تحضر دومًا كـ»repoussoir»، أي كعنصر للنفور والتخويف، لا كدولة شريكة لها تاريخها ووزنها السيادي. ويطرح هذا الخطاب سؤالًا محوريًا: لماذا تشكّل الجزائر عقدة نفسية عميقة في المخيال الفرنسي الرسمي والإعلامي؟
الجواب، برأي مراقبين، لا يكمن في الجزائر نفسها، بل في ما تمثّله للهوية الفرنسية. فثورة التحرير الجزائرية المجيدة، بكل رمزيتها وبسالتها وقوتها، لم تسقط فقط النظام الاستعماري، بل زلزلت بنية الدولة الفرنسية ذاتها، وأجبرت الجمهورية الرابعة على الانهيار، لتولد على أنقاضها الجمهورية الخامسة. ومن هنا، تصبح الجزائر رمزًا لما فقدته فرنسا من إمبراطورية، ومصدرًا دائمًا لاستفزاز ذاكرتها غير المحسومة، حيث يُنظر إليها كمذكّرة أليمة للانكسار، وليست كدولة مستقلة بشعبها وسيادتها، واستقلال الجزائر كان بمثابة دفن نهائي لوهم الامبراطورية الفرنسية.
علاوة على ذلك، فإن توظيف الإعلام الفرنسي لهذه العقدة لا يقتصر على اليمين المتطرف، بل يطبع طيفًا واسعًا من القنوات والصحف من مختلف الاتجاهات. فاليمين المتطرف يشيطن، واليسار «يؤدب» بنبرة وصائية، وكلاهما يظل حبيسًا لثنائية «الوصاية أو النبذ»، دون أن يمنح الجزائر فرصة الظهور كفاعل متكافئ. هذا التناول المشوَّه تفاقم خلال السنة الجارية، متغذّيًا من التوتر الدبلوماسي الحالي، وأضفى على التغطيات طابعًا هوسيًا، يُظهر الجزائر لا كدولة ذات سياسات مستقلة، بل كخطر داهم على القيم الجمهورية.
لكن، في نفس الإطار، ظهرت أصوات فرنسية وازنة ترفض هذا المسار التصعيدي، وتدين الخطاب الإعلامي الموجه ضد الجزائر، معتبرة إياه انزلاقًا خطيرًا يتنافى مع المبادئ الديمقراطية وحرية الصحافة. والعديد من الكتاب والصحفيين الفرنسيين، دعوا إلى مراجعة جذرية لما وصفوه بـ»الهوس الإعلامي المرضي» بالجزائر، معتبرين أن هذا الانشغال لا يكشف عن مشاكل الجزائر، بل عن مأزق الذات الفرنسية، العاجزة عن مواجهة ماضيها الاستعماري.
كذلك، اعتبرت شخصيات سياسية بارزة أن روتايو ورفاقه في اليمين المتطرف، يستخدمون الجزائر كقضية بديلة لصرف الانتباه عن مشاكل داخلية متفاقمة، من تفاقم الديْن العام، إلى تصاعد الأزمات الاجتماعية، إلى فقدان فرنسا تدريجيًا لنفوذها في إفريقيا، وهو ما أثار لديهم شعورًا بالذعر الوجودي، تُترجم إلى عدوان لفظي تجاه الجزائر. وهذا ما يُفسر كيف أصبحت الجزائر «هوسًا» لدى وزير الداخلية، لا يكاد يخلو له تصريح من الإشارة إليها، وكأنّ فرنسا لا تملك سوى الجزائر لتفسير أعطابها البنيوية.
بالإضافة إلى ذلك، تتجاهل معظم وسائل الإعلام الفرنسية الفروقات الجوهرية بين الجزائر وغيرها من دول المنطقة، وتغمض العين عن مؤشرات السيادة الاقتصادية التي تتمتع بها الجزائر، كضعف المديونية الخارجية واستقلال القرار الوطني، مقابل بلدان أخرى توصف بأنها «شريكة معتدلة» رغم سجلها المظلم في حقوق الإنسان أو ارتهانها للمؤسسات المالية الدولية. وهنا يطفو سؤال عميق: هل تحترم فرنسا فقط من يطيعها؟ وهل الإعلام الفرنسي محايد فعلًا حين يتعلق الأمر بالجزائر؟
وفي المحصلة، لا يمكن قراءة الأزمة الحالية بين الجزائر وفرنسا -بحسب مراقبين- دون ربطها بذاكرة استعمارية لم تُحل، وبنظرة فرنسية متعالية لم تستوعب بعد استقلال الجزائر كواقع لا رجعة فيه.
في هذا المناخ المسموم، تبرز ضرورة فضح الانحراف الإعلامي الفرنسي، والدعوة إلى مراجعة أخلاقية في تغطية الشأن الجزائري، ليس خدمة للجزائر فحسب، بل لإنقاذ القيم التي تتغنى بها الجمهورية الفرنسية نفسها. لأن استمرار هذا الانحراف لا يكشف فقط عن تحامل ضد الجزائر، بل يعرّي هشاشة المشروع الفرنسي وعجزه عن مواجهة الحقيقة.
إن العالم تغيّر، وإن الجزائر، بحضورها السيادي والدبلوماسي، لم تعد ذلك «الطفل المشاكس»، بل شريكًا يحتم التعامل معه بالندّية والاحترام.