بينما تتعثر جهود السلام بالشقيقة ليبيا، حيث تبدو التصدّعات التي فكّكت الوحدة الشعبية هناك بحاجة إلى جهود أكبر وربّما إلى وقت أطول لرأبها وإعادة الأمن والاستقرار المفقودين مند أزيد من خمس سنوات، فإن الوضع في الجارة الجنوبية مالي على العكس تماما يبعث فعلا على التفاؤل بقرب الخروج من النفق المظلم إلى حيث الانفراج والانطلاق نحو المصالحة والتنمية.
تشير التطورات التي تعرفها مالي بتأكيد من المراقبين السياسيين، إلى أن هذه الدولة الواقعة في الساحل الافريقي والتي عاشت في ربيع 2012، وضعا خطيرا جراء انقلاب عسكري زلزل أركان السلطة وهدّم مؤسساتها، ووجدت نفسها بين كمّاشة تنظيمات إرهابية استباحت الشمال واتخذته مستقرا لها تمارس فيه جنون دمويتها وإجرامها بفظاعة لا مثيل لها، استطاعت أن تتجاوز أزمتها السياسية كما الأمنية، وهي الآن تشقّ طريقها بثبات نحو استعادة الوحدة الوطنية ودفع عجلة التنمية، ودليلها وبوصلتها في مسيرة الاستقرار هذه، هو اتفاق السلم والمصالحة الذي تمّ التوصّل إليه بمساعدة ومرافقة الجزائر التي لم تدّخر جهدا ولا إمكانيات لمساعدة فرقاء مالي على الجلوس إلى طاولة الحوار والبحث عن مخرج ينقذ البلاد من المنزلق الخطير الذي كانت تمضي إليه.
بشهادة الجميع، مالي خرجت إلى برّ الأمان، فالإرهاب يعرف انحسارا كبيرا إذ لم تعد هنالك تنظيمات كبيرة قادرة على تنفيذ هجومات ضخمة كما في السابق، وتطبيقات اتفاق السلام تتم بتأنّي لكن بخطوات مدروسة وصحيحة، وأبناء الوطن الضالون يتجاوبون مع يد المصالحة التي تمدّها السلطة في باماكو وما يلزم فقط في هذه المرحلة الحاسمة، هو أن يتعزّز ويتكثّف الدعم الدولي المادي والمالي على وجه الخصوص لتجسيد البرامج التنموية على أرض الواقع، فأزمة مالي هي بالأساس أزمة مال وتنمية محروم منها الكثير من أبناء الوطن خاصة في الشمال، ما جعل التنظيمات الدموية والإجرامية تستغل هذا الوضع لتلقي بشباكها على المنطقة و أهلها.
الأزمة السياسية والأمنية التي تفجّرت في مالي قبل نحو خمس سنوات، فجّرت معها الوحدة الشعبية حتى بات البعض يشحذ سكاكين التقسيم مطالبا بانفصال الشمال بمبرّر أن السلطات في العاصمة تجاهلت طول سنوات الاستقلال تنمية هذا الاقليم المغلوب على أمره تماما وتركت سكانه في وضع اجتماعي مزري يعيشون أعلى درجات الفقر والتهميش.
وإذا كان هذا المبرّر حقيقة مؤلمة لم تنكرها باماكو، فإنّها بالمقابل تمسّكت بمواجهة خطر التقسيم ووعدت بتصحيح الأخطاء السابقة من خلال وضع برامج تنموية خصصت لها ملايير الدولارات، كما أعلن الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا مؤخرا، عن انعقاد مؤتمر وفاق وطني قبل نهاية السنة الجارية مثلما أوصى به اتفاق السلم والمصالحة الذي شدّد على استبعاد أي مشروع استقلال لمناطق الشمال ونصّ على أن الأطراف الموقعة تلتزم بـ «احترام الوحدة الوطنية والترابية وسيادة دولة مالي وكذا طابعها الجمهوري والعلماني»، وتجاوز المشاكل العرقية والثقافية لفتح صفحة جديدة.
انتخابات بلدية في نوفمبر
وقبل مؤتمر الوفاق الوطني، فإن الماليين على موعد الشهر القادم مع الانتخابات البلدية التي ستمكّن من تنفيذ نقطة مهمة في اتفاق السلام، المنبثق عن مفاوضات الجزائر، ألا وهي تنصيب السلطات الانتقالية الموسعة.
وفي السياق، أعلنت الحكومة المالية أن الناخبين الماليين مدعوون للتصويت على المجالس البلدية في 20 نوفمبر «في كل الأراضي الوطنية» بعد سبع سنوات على آخر اقتراع بلدي نظم عام 2009.
وقالت الحكومة في بيان، أن مجلس الوزراء اجتمع برئاسة الرئيس ابرهيم ابو بكر كيتا، «وأقرّ مشروع مرسوم ينصّ على دعوة الناخبين وبدء وانتهاء الحملة الانتخابية بمناسبة انتخاب أعضاء المجالس البلدية.
ويفترض أن تبدأ الحملة الانتخابية في الرابع من نوفمبر، وتنتهي في 18 من الشهر عينه.
وكان مقررا أن تجري انتخابات المجالس البلدية لولاية تستمر خمس سنوات، في 2014، لكنها أُرجئت بسبب الوضع في البلاد التي اتسّم بحالة من عدم الاستقرار.
قطار السلام انطلق
مالي وبدعم من الجزائر والأمم المتحدة، استطاعت أن تضع قطار السلام على سكته الصحيحة، لكن تطبيقات اتفاق السلم والمصالحة بحاجة إلى مرافقة جادة ونزيهة وإلى دعم مادي كبير لإطلاق مشاريع تنموية وثقافية تسدّ الفجوة العميقة بين السكان في الشمال وباقي البلاد.
إن مالي اليوم بحاجة ماسة إلى الدعم، فثنائية الاستثمار والاستقرار هي مفتاح الأمان نحو مستقبل أفضل، لهذا بات من الضروري تعاون الجميع لمساعدتها على تجاوز الظروف الصعبة التي تمرّ بها.
والأكيد أن المسؤولية التي تقع على دول الجوار كبيرة،فأمنها من أمن مالي واستقاره، والمثل يقول الجار قبل الدار.